Friday, September 28, 2012

مائة عام من النيون


تذكرني اللمبات النيون بفترة التسعينيات، عندما قرر ابي
ان يغير كل النجف في شقتنا الصغيرة الى النيون وقد كانت ثورة حينذاك في عالمنا بعد الضوء الاصفر الذي كاد ان يعميني. جاء القرار بعد إلحاح مني بعد ان قال مسيو اللغة الفرنسية الذي كان يأتي ليعطيني درس خصوصي في اللغة "لو ماركبتوش نيون انا مش هاجي تاني" وبالطبع كان مستقبلي في الثانوية العامة اهم من فاتورة الكهرباء الشهرية. اللمبات النيون تحتفل بعيد ميلادها المئوي هذا العام فلقد تم اختراعها عام 1911 بواسطة المهندس الفرنسي جورج كلاود (1870 – 1960) والذي يلقب بأديسون فرنسا. سجل براءة الاختراع اول مرة في مارس 1910 وكان اول ظهور للمبات النيون الكبيرة في معرض باريس للسيارات في ديسمبر 1910. ولقد شكلت هذه اللمبات ظاهرة ثقافية في الولايات المتحدة في هذه الفترة، بحلول 1940 كانت كل المدن في الولايات المتحدة الامريكية تقريبا مشرقة بالنيون وقد عرف ميدان التايمز على مستوى العالم باضوائه المبهرة. وقد انخفضت شعبيتها ابان الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) لكن الاضواء المبهرة حافظت على وجودها بحيوية في اليابان وايران وبعض الدول الاخرى.





ميامي في الغروب.



"هارت بريك" كافيه باللون احمر دامي حيث يمكنك ان تعالج بؤسك الخاص بمشروب.



مطعم في نيويورك



مطعم كركند "سرطان البحر"



عدة لافتات نيون مركبة من مسرح برودواي 1939.



ميدان التايمز 1955، نيويورك.



خارج مسرح استور حشد ملتف حول دعايا لفيلم من افلام الفريد هيتشكوك.



بريطانيا ايضا تتألق بالنيون. ميدان بيكاديللي 1950.



مولان روج خلال فترة السيتينيات. باريس، فرنسا.



يافطة نيون ترحب بزوار رينو، ولاية نيفادا



فندق باتيس،
 من فيلم
 Psycho لافريد هيتشكوك،
 1960.



الممثل توم وايتس من احد مشاهد افلامه
 "One from the heart” 1982



مطعم
 Munson Diner 1997،
 في محاولة لتقليد الحياة الاميريكة في اواخر الاربعينات واوائل الخمسينات.



مطار شيكاجو الدولي



اعلان سجائر كاميل فوق كافيتيريا ببرودواي، نيويورك.



برلين 1985.



ميامي 1972



ترجمة: أميمة صبحي

شعر أكرت قصير


لن يمنعها الإفطار أو تنظيف الشقة من الذهاب لصبغ شعرها الأكرت القصير، هكذا حسمت الخلاف بداخلها وهي تتأمله في المرآه الصغيرة فوق الحوض. ارتدت عباءتها على عجل ونزلت بخفة لا تناسب حجمها على السلم وهي تنادي جارتها أم محسن.
"يالا يا اختي..إنجي زمانها اتزحمت على الاخر"
"ما قلت لك هاتي الصبغة وأنا اعملك بالليل"

تجاهلتها بقصد وهي تتذكر النتيجة الكارثية لأخر مرة استسلمت لأيدي أم محسن منذ شهور، تجاذبا أطراف الحديث حول العيد وفرش السجاجيد والستائر وهما في طريقهما لإنجي ولم يستغربا كثيرا من ازدحام المكان. الغرفة الصغيرة المطلية بجير أصفر فاتح وتزينها خيوط العنكبوت في الاركان، بينما يقبع في أقصى اليسار خلف الباب حوض صغير انطفأ لونه الأصلي وبدا رماديا عطنا، والمنتظرات متكئات على الكراسي الخشبية المتهالكة، ولا شئ يمنع بعض أطفال الصراصير من اللعب في المكان بنشاط وحذر، وأخيرا إنجي واقفة أمام المرآة المثبتة على الجدار المقابل للحوض ومنار تقف أمام المرآة المجاورة..حاسمات ومفرقات النسوة عن بعضهن حينما يحين وقت الشجار حول من "عليها الدور". 

إنجي ومنار صانعات الجمال في ذلك الكوافير الصغير الذي لا يختلف عن أبهى مراكز التجميل في نظر المترددات عليه بإنتظام. الاهتمام بجمالهن خلق نوع من المودة والألفة بينهما وبين الزبونات. كان أخر نهار في رمضان ولكن إنجي لم تخجل إطلاقا من اعلان إنها "فاطرة" وأن الدولاب الصغير تحت الحوض به "بن ونسكافيه وشاي وغلاية" لمن تريد أن تشرب شيئا يسلي صيامها. وتنقلت الأكواب من يد ليد في خفة، فلقد كانت صدفة أن معظم المنتظرات لديهن أعذارهن.

خفة "الفتلة" وسرعتها في يد إنجي تؤهلها للعمل في إعلى مراكز التجميل أجرا ولكنها لن تترك صديقتها منار صاحبة الكوافير لأي سبب كما إنها تعودت على الزبونات وعرفت رسمة حواجبهن وجبهتهن مما أتاح لها العمل في يسر ونجاح. هنا تعرف مدى أهميتها، تدرك تماما أن من جلست تحت يدها مرة لن تذهب لأخرى إلا لأسباب قهرية، من هنا استمدت قوتها وفرضت السيطرة على منار نفسها. وقفت أم محسن بجانبها تراقب حركة أصابعها بتركيز، لم تنسى أبدا حلمها أن تزين العرائس ليلة فرحهن. لم تنسى الشعيرات الصغيرة التي أزالتها للكثيرات قبل الزواج. ولم تغفر لزوجها عدم موافقته على عملها بعد الزواج بحجة أن "شغل الكوافيرات" هذا لا يناسب العائلات المحترمة. فمارست هوايتها على الجارات والقريبات وهي تعرف إنها محترفة وإنها لتكون أبرع من إنجي لو أتيحت لها الفرصة.

من وقت لآخر يتعالى صوت المنتظرات في صياح جماعي بأنهن متأخرات والمغرب أصبح وشيك وغدا العيد ولم يفرشن السجاجيد بل أن واحدة منهن قالت إنها لم تغسل "قيشاني" الحمام حتى الآن. لم تلتفت إنجي لهن ومارست عملها في صمت بينما حاولت منار تهدئة الموقف وهي تحكي مغامرات أولادها الثمان. فعلقت إحداهن على كلامها "إنت بصراحة أوفر يا منار..أنا مش فاهمة إزاي بعد كمية التوائم دي حملتي تاني؟"
"يا أختي!..كل عيل بيجي برزقه"

طالت الجلسة ولم يتوقف الحكي بإنتهاء إحداهن ومغادرتها الكوافير بل يتصل بأخرى منزلقة للتو من خلف الستارة البنية المتسخة ذات الرقعيتن الخضر والتي تعمل عمل الباب في أوقات العمل. وتمازجت رائحة الصبغة التي تشبه رائحة القش المحترق ورائحة الشعور المتسخة مع رائحة الشاي والنسكافيه البلاك لعدم وجود لبن. وتقول الأسطورة إن كلما اتسخ الشعر أكثر كلما تماسك لون الصبغة وازداد لمعانا.

الوجوه الملتهبة من فرط لذة الأنوثة الحالمة بنعومة بادية للعيان لا تتردد أبدا في احتمال الألم وتظل صامدة تحت ضوء اللمبة النيون المتراقص. ولا تخلو المرآة من وجه يتحقق من مدى النعومة ويعود مرة أخرى تحت الفتلة لوجود شعرة استطاعت أن تفلت من قرار الإزالة الدوري. الأكثر خجلا هن الآنسات ويتلخص همهن في كيفية الخروج للشارع بهذا الوجه الملتهب وهن يعرفن أن الشباب على الناصية المجاورة واقفون ليتأملوا الوجوه النظيفة في حرص. أما المتزوجات فلا يبالين بهؤلاء الاطفال ورأسهن مشتعل بليالي مثيرة تتبع  عمليات التنظيف هذه. المنتقاب بكل تأكيد هن الأسعد حظا بينهن"بتيجوا وتمشوا كده ولا حد عارفلكوا حاجة"

وصبي تجاوز التاسعة من عمره جالس في حجر أمه ينظر بخجل ومتعة خفية للسيدات المستسلمات ويستمع للآهات المكتومة وبعض الكلمات الأباحية التي تلقى على مسامعه من آن لآخر..تخلع أمه حجابها ويراها أجمل الموجودات بشعرها البندقي المسترسل على ظهرها، يتملكه الخجل، فيطلب منها الإذن في الوقوف على باب الكوافير رافضا أن يستمع لآهاتها. طالما ترجاها لأن لا تصطحبه معها لمثل هذه الأماكن بلا استجابة. بالكاد سمحت له أن ينطلق وهي تخشى أن يتوه وسط الحارات.

أصبح لون الشعر الأكرت القصير أحمر ناري لا يليق على لون البشرة التي لفحتها نار البوتجاز وزيت التحمير ولكن صاحبته كانت بالفعل سعيدة بينما تنظر إليها أم محسن وهي تمصمص شفتيها قائلة في همس "ما أنا كنت هاطلعه كده وأحسن كمان"، غادرا سويا بعد دفع الحساب كما جاءا سويا وهن أكثر ثقة في جمالهن بعد التنظيف والتجديد، حاولا جذب أطراف الحديث مرة أخرى ولكن الرأس الأحمر مشغول بلون قميص النوم الذي يناسب المظهر الجديد في وعد لنفسها بليلة جنسية فاخرة بينما أم محسن تتسائل عن أحوال محسن الصغير وفي الخلف تردد آذان المغرب ليعم المكان.