Sunday, December 30, 2012

نظرة إلى رسائل إليوت الخاصة

كطفل خجول ولد بفتق في بطنه سأل ت إس إليوت مرة ممرضته لماذا لا يرتدي الصبي العاري بالكتاب حزام حول بطنه؟. كان حينذاك صبي لم يتجاوز التسع اعوام بعد ولكنه كان حسن التربية ولديه الكثير من الفضول، يهتم بطفولية ببعض ازهار عباد الشمس المفقودة من منزل العائلة الصيفي والميكروسكوب المكسور الخاص به، ذلك المنزل الذي يقع في جلستر بولاية ماساشوستس الامريكية كتب منه العديد من رسائله الموجهة الى والده.
طالما تاق إليوت الى ان يكون فيلسوف اكثر منه شاعر. أشتعلت الحرب الكبرى فور وصوله الى المانيا من اجل التخرج ففر هاربا الى انجلترا دون حتى وداع الاسرة التي استضافته. لم تكن حياته سهلة ابدا فلقد كان دائما على عجل ولكن وجهته كانت ضبابية. قبلت اطروحته العلمية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة ولكن حالت الحرب دون رجوعه ولكن هارفارد تعقبته بعد ذلك بوقت طويل بعد ان فقد الامل وقامت بتعيينه. وهناك مارس إليوت هوايته الشعر وقد حالفه الحظ ونشر له الشاعر الامريكي عزرا ويستون باوند (1885 – 1970) شعره في مجلة "Poetry” الشعرية. ولكن الرجل الوسيم لايزال غير واثق من موهبته. لقد تزوج زوجته الاولى فيفيان بعد ثلاث اشهر فقط بعد أول لقاء بينهما وقد بدت الحياة مكتملة. ولكنه عاني من اعباء مادية واضطر الى ان يتسول من عائلته المال. ثم تحسنت احواله المالية قليلا بعد توظيفه المفاجئ في بنك لويدز.
قصيدته "ارض الضياع"، او كما اطلق عليها قبلا
 He Do the Police in Different Voices
 ربما تكون ملهمة من اعمال تشارلز ديكنز ولكنها في النهاية تعكس حساسية شخصية 
إليوت. في البداية قضي الموظف البنكي ،بالمصادفة، لياليه يكتب المقالات الواحدة تلو الاخرى ويرسلها الى الجرائد الفلسفية ثم غير وجهته الى المجلات الادبية. لم يؤمن بموهبته الشعرية لمدة طويلة ثم جاء الشعر تباعا. وبينما هو يعمل بجد في البنك وكتابة المقالات النثرية ليسدد ديونه، كتب إليوت القليل من الابيات خلال اقامته في لندن، لانه كان مرهق جدا لمجرد التفكير في الشعر.
بعد ان نضب شعره اصبحت رسائله بمثابة نوافذ على روحه او بالاحرى ابواب لسردابه. مجلدان قاما بتصوير كفاح إليوت لايجاد وظيفة وشق طريقه في عالم لندن الادبي الذي يعتبر مدرسة من سمك القرش، الكتاب يلتهمون اصدقائهم والناشرون يلتهمون كتابهم. معظم الرسائل الاولى كتبت الى عدد قليل من الناس مثل ابويه واخيه هنري، بعض الادباء وبعض مضيفات لندن الثرثارات. من بين الشخصيات الادبية الاكثر تأثيرا عزرا باوند، والفيلسوف والمؤرخ البريطاني برتراند راسل وفيرجينيا وولف التي كانت ناقدة لاذعة بشدة فلقد وجدت إليوت حاد الطباع ومتمرد ومغرور وصاحب صوت كئيب.
معظم رسائله كانت اجتماعية، دعوات ترحيب او رفض، الاتفاق على موعد او ألغاؤه، وكانت حياته الاجتماعية بمثابة خلق طريق لفرص عديدة مثل علاقته برئيس تحرير المجلة الادبية البريطانية
 The Criterion
 والتي كانت المجلة الادبية الرئيسية في هذه الايام. كان لإليوت رغبة ماسوشية في العمل، فالمجلة كانت "تعمل بدون مكتب وبدون فريق عمل او مدير اعمال ولكن بواسطة موظف بنكي بائس وزوجته" كتب إليوت. كما انه لا يتلقى راتب نظير الساعات القصيرة التي يقضيها في العمل بعد عودته من لويدز. وقد كانت شقته الصغيرة بلونها البرتقالي الصارخ مكان عزلته الرهيبة بعيدا عن اسرته فلقد كان في الخامسة والثلاثين من عمره ولا يزال يكتب رسائل حب لوالدته ويثرثر فقط من اجل الثرثرة. كان جو البيت اللندني الحار المخنوق بالحروب وحياته الخاصة الهادئة قاسم مشترك مع قصيدة "ارض الضياع" والتي كانت تبدو ذات طابع شخصي بشكل كبير تحمل في طياتها عنصرية ملحوظة كما انها تعتبر تحليل عنيف لوضع المجتمع حينذاك.
نادرا ما يستطيع القارئ ان يلمح ما وراء الستار الذي يغلف به إليوت ايامه وتصرفاته. فلقد عانت فيفيان من شتى انواع المرض: التهاب الاعصاب، الالم العصبي، التهاب القولون، الصداع نصفي، والعديد من الامراض التي تعجز الادوات الطبية عن تشخيصها او معالجتها. وهنا اقترب إليوت كثيرا من الدجل لعلاجها وقدم الاطباء محاولات للعلاج بالماء وغسل القولون واكياس الغدد وحقن بالبكتريا العصية. فلقد كانت ممارسات يومه ليست بعيدة عن اراقة الدماء والحجامة وكأنه في العصور الوسطى.
كان إليوت ماكر، كما ينبغي على المحرر ان يكون، ونشر لوولف والكاتب الانجليزي إي. أم. فورستر بشكل موسع وكأنه فاترينة 
 عرض.
 لاحقا عندما تخلص من العمل البنكي وعمل لشركة نشر انجليزية جديدة
 Faber & Gwyer،
 اتهم بانه يسرق المؤلفين من دار نشر
 Hogarth Press
 التي تملكها فيرجينيا وولف وزوجها. كما انه كتب خطاب بذئ وجائر للشاعرة الامريكية الحداثية مارينا موور (1887 – 1972). لا يمكن اعفاؤه كليا من جراء الازمة في حياته الزوجية (خطاباته قبل زواجه من فيفيان تظهر سلوك شيطاني غاب تماما طوال الوقت الذي قضاه معها).
لم يكن إليوت يخفي معاداته للسامية بل كان يضرب بها عرض الحائط. فلقد اشار الى تاجر يهودي وسمح لنفسه بان يقول "اشعر بالمرض عندما افكر في عقد عمل مع ناشر يهودي". انها ادانة ان تكون هذه الملاحظات تطلق فقط بحضور هؤلاء الذين يؤيدون انحيازاته. ولا يزال إليوت يعتمد على اصدقائه ليونارد وولف والروائي البريطاني سيدني شيف (1868 – 1944) وكما كانت تصريحاته ضد السامية مروعة فأنها لم تكن تناسب زوجته وأمه قط حيث قال "لدي نفور غريزي تجاه اليهود، كما لو اني مضطر لرعاية الحيوانات".
اذا كان الجزء الاول من الخطابات بمثابة مسرحية ذات طابع انتقامي انجليزي، فهو البطل الذي ينتظر خيانة اصدقائه، فان الجزء الثاني يعتبر بعث للكوميديا عن زوج عجول يعمل بشكل هستيري وزوجة عبوس عصبية مكوعة في الفراش. الخطابات في هذه الفترة كانت فقط عن فيفيان التي كانت ثاقبة ذات اخلاص فظ ومحافظة على دفع زوجها نحو المشاكل المادية. ولقد كانت ايضا ملكة الدراما المحلية وبالكاد اعتبرت ممثلة سينمائية. ولقد كانت تتصرف بوقاحة في بعض الاحيان فوصفت الكاتبة النيوزلانيدة كاثرين مانسفيلد (1888 – 1923) بأنها "مخلوقة للمقاهي" وجعلت فيرجينا وولف تقريبا تتقيأ. بطريقة غريبة اصابت اسرة إليوت نفسها بالمرض. فمن الصعب ان لا نفكر ان فيفيان استغلت محنتها للسيطرة على زوجها.
انتهى هذا الجزء بانفصال إليوت عن زوجته بشكل مؤقت وقد أدخلت نفسها في دوامة أدت بها في نهاية المطاف بعد سنوات في مستشفى للامراض العقلية. لم يكن إليوت خرج من دائرة العالم السفلي لحياته الزوجية بعد فبقى رجل متغير المزاج مع مسحة من الخيلاء. كتب خطاب لأمه يخبرها بان هناك من يؤمن به باعتباره "أفضل ناقد وشاعر على قيد الحياة في انجلترا بأسرها" بالرغم من انه اخبر صديقه الروائي والشاعر والناقد الانجليزي فورد مادوكس فورد (1873 – 1939) انه غير راض الا عن 30 بيتا فقط من قصيدته "ارض الضياع".
ماذا كان سيحدث لو ان إاليوت توفى بالمرض الذي اصابه بالفك عام 1925 قبل ان يغادر البنك؟ لم تكن لتتضاءل سمعته الشعرية او النقدية كثيرا بل كان سيبقى على نحو ما واحد من اعظم الشعراء الذين كتبوا باللغة الانجليزية يوما ما.
الان يتم الاستخفاف بموهبة إليوت النقدية، ينبذه ناقدون اقل منه وعي وذكاء. فشعره الذي يعد اساس للانثولوجيا الحديثة، يحاولوا الان ان يقفوا ضده (قصيدته "ارض الضياع" تعد من أفضل ما كتب من شعر في القرن العشرين). اختفت تقريبا افضل قصائد إليوت تحت 
 اكوام من غبار النقد والشرح الذين جلبوا بدورهم المزيد من الغبار.
 العديد من اعماله الشعرية الاولى
 Prufrock، Sweeney، Gerontion، وحتى The Waste Land
 او "ارض الضياع" يمكن ان يتم وصفهم بأنهم قصائد شعر ريفي مدني وهو جزء من التحول في الشعر الانجليزي من الريف الى المدينة. قد يأخذ احياء هذه القصائد مرة اخرى وقتا طويلا بعد ان قام العديد من الشعراء الوقوف ضد إليوت سواء كانوا اصدقاء او اعداء ومنهم من مات منذ زمن بعيد والى ان يتم بعث تراثه مرة اخرى سيبدو عالمه وكأنه موضة بالية مثل وضع البابا الان.
من خلال الخطابات نستطيع ان نعرف ماذا كان إليوت الشاب قبل ان يصير شيخا، موظف بنكي مرهق، محرر في مجلة بعد عودته ليلا، منهك في حياة زوجية تعيسة وحزين لما وصل اليه حاله. يبدو في بعض الاحيان ضيق الافق وحاد الطباع ومزعج وقد قال عنه الروائي الامريكي كونراد ايكن (1889 – 1973) "لقد كان اغبى مما قد اتذكره، في الحقيقة كان احمق" بالرغم من عمله في البنك كان مناسب لمزاجه بشكل ما، فاقترابه لمدة طويلة من الادب لم يكن يدعم موهبته.
من الممكن قراءة "ارض الضياع" ليس كمأساة صاخبة صارمة كتبها رجل عانى من انهيار عصبي ولكن كمجموعة من التذمر الساخر او كما اطلق عليها هو فيما بعد "تمرد ايقاعي". انها قصيدة باردة صادمة.
الجزء الاول من هذه الطبعة تحكي تقريبا عن ربع القرن الماضي. وقد اعيد طبعه وبداخله 200 خطاب جديد مع المزيد من ملاحظات إليوت. اما الجزء الثاني فيحتوي على مراسلات حتى عام 1925. إليوت الذي رغب ان يسمع امه تغني له اغنية طفولته بينما كان في الثلاثين من عمره وزوجته التي كانت تطلق عليه رغم كل مشاكلهما "وينكي بينكي"، سوف تعيش خطاباته اكثر من شاهد قبره فهم بمثابة رواية روسية طويلة انتهت في منتصف طريق مرعب ومهين ومرهق في نهايته.

ترجمة:أميمة صبحي
نُشر بأخبار الادب
مارس - 2012

Friday, December 28, 2012

دوبلن: مدينة بلا ثورة


في مثل هذه الايام منذ مائة عام وثمان سنوات واعد جيمس جويس نورا بارنسل، زوجته فيما بعد، للمشي سويا للمرة الاولى. كان هذا في 16 يوليو 1904 وهو نفس التاريخ الذي اختاره جويس لتدور فيه احداث رواية عوليس بمدينة دوبلن. وهو نفس اليوم الذي يحتفل به محبيه في دوبلن من كل عام بداية من عام 1954. الجوانب الغامضة في حياة جويس الخاصة انعشت السرد الخاص به. فاسطورته الخاصة كادت ان تندمج مع اساطير الاخرين فأضافت بعد وثقل للايام والاماكن التي بدت دوما مألوفة.
عملت نورا في فندق فين والطريق بينه وبين ميدان ميريون حيث خططا للقاؤهما اول مرة يمر بمنزل صامويل بكيت الذي ربما كان في ذلك الوقت يكتب روايته ميرفي. في هذا العام، 1904، خططا جويس، الذي بدأ في كتابة Dubliners ، ونورا لزيارة المنزل الذي سكن به سير ويليام وايلد حيث ترعرع الكاتب اوسكار وايلد وهو نفس المنزل الذي كان الكاتب الايرلندي برام ستوكر صاحب رواية دراكولا ضيفا دائم عليه. والجدير بالذكر ان زوجة الاخير كانت صديقة اوسكار وايلد السابقة وقد تنافسا على حبها لفترة طويلة من الزمن. وبذلك يكون الطريق الى مدينة دوبلن، مسرح كتابه Dubliners، مقدس بالنسبة لك اذا كنت تعرف هذه الاسماء وتقدرها اما اذا كنت في عجلة كما تتصرف شخصيات عوليس احيانا او كما يفعل الناس في هذه الايام فسيكون هذا الطريق اعتيادي كما شارع عادي في اي مدينة اخرى.
بقيت المدينة التي كتب عنها جويس كما هي لمدة طويلة ربما في حالة جمود اكثر مما ذهب خيال جويس يوما. يحكي الكاتب الايرلندي كولم توبين عن انتقاله لهذه المدينة التي اصبحت بشكل ما مرتع لعشاق جيمس جويس. يقول انه انتقل هناك في بداية السبعينيات، انها نفس المدينة التي كتب عنها جويس في بداية القرن ويحكي عن الشخصيات القاطنة بها: "سكن الغرفة المقابلة لي رجل يذهب الى عمله ويعود منه بشكل يومي منتظم، صادف ان رأيته مرات قليلة في الشارع وقد بدا لي رجل مألوف يرتدي بدلة كاملة. يبدو انه يعمل في مكتب، في الحقيقة كان رجل عادي جدا ولكنه لم يكن طبيعي..كما لو ان كهرباء حياته قد انقطعت ويعيش على ضوء الشموع. انه لم يجتاز ابدا باب حجرتي ليذهب الى الحمام في الفناء الخلفي للمبني. لا اعرف اين يقضي حاجته وقد استشعرت من خطواته البطيئة اثناء الليل حيث يسود الهدوء انه يقضي لياليه وحيدا يحتسي الشراب في مكان ما في هذه المدينة."
فكرة الشخصيات الرثة المنعزلة ذات الحياة الغامضة، الشخصيات الوحيدة التي تمتلأ حياتهم بالمشروبات الكحولية والمساجين وراء مكاتبهم والقاطنين في منازل مملة او حجرات ذات حوائط باردة، رجال متعلمون ولكن بلا مستقبل. تلك الشخصيات تصنع طريقها في قلب القصص القصيرة لكتاب Dubliners: Two Gallants – The Boarding Houses – A Little Cloud – Counterparts –A Painful Case and Grace.
بينما هو يرسم هذه الشخصيات ويقدم لهم قليل من الراحة ولحظات قصيرة من الاحتمالية، لم يكن جويس مهتما ببعض الجوانب الغامضة التي يعرف سرها عن هذه النوعية من الرجال واقدارهم في هذا العالم انما اهتم بالشخصية نفسها التي اطلق لها الاسم ورسم حياتها الخاصة والسرية. الاستغراق في الافكار العميقة والعزلة الواعية للافراد، والتي تجعلهم في حالة اختفاء دائم، نجح جويس في ان يقدمهم بطريقة درامية مسرحية.
لم يسمح جويس في كتابه ذلك ان تختلط قصص البالغين بحكايات الاطفال البريئة، فالقصص الاولية للاطفال والشباب تقدم الخوف من الاخطاء بالتأكيد اكثر من قصص البالغين. وبالطبع فان الراوي في قصص الاطفال يبدو انه يعرف كل الجوانب الغامضة اكثر من اي شخصية اخرى في الكتاب. ففي قصته An Encounter كان الراوي صبي بالمدرسة تعامل مع اضطراب النشاط الجنسي للرجل الذي يقابله بسهولة ويسر. (تلك القصة كما ذكر ستانسلوس جويس، والد جيمس، مبينة على وقائع حقيقية حدثت معه وهو صغير).  وفي Araby يحكي عن حب استحواذي من قبل شاب صغير تجاه فتاة مليئ بالمشاعر الجنسية. انها درامتيكية وملموسة اكثر من اي قصة اخرى في الكتاب.
في خطاب ارسله الى ناشره في عام 1907 تكلم جويس عن الطموح والتواضع الذي كان يداهمه وهو يكتب قصصه "كان قصدي ان اكتب فصل واحد عن التاريخ الروحي لمدينتي وقد اخترت دوبلن لانها تبدو مركز للركود والعجز. ولقد حاولت ان اقدمها على انها مدينة العوام الذين هم دائما على الحياد تحت اربع من جوانبها: الطفولة، البلوغ، النضج والحياة العامة. وقد رتبت القصص وفقا لهذا المنظور."
بدا جويس كتابة قصصه في دوبلن عام 1904 وكان يبلغ من العمر 22 عاما وانتهى منهم بقصة The Dead في عام 1907 في مدينة تريستي. وبعد عدة محاولات وصعوبات وحظ سيئ مع الناشرين، نشرت Dubliners في يونيه 1914.
ادعاء جويس بانه سيكتب فصل واحد عن مدينته هو امر مبالغ فيه حتى القصص نفسها تتفادى ان تكون مجرد وصف سهل. فالقصص تحتوي على قرية مليئة بالحالمين وراغبي التغيير رغم وجودهم بقفص. ففي Two Gallants  وEveline هناك دائما شخصيات غريبة ومتيقظة للهروب من قفص العائلة او العمل. في After the Race هناك هيستريا حمقاء في محاولة الشخصية دويل بان تظل على صلة باصدقائها المثقفين الاجانب. في العديد من القصص نجد الشخصيات في حالة ترقب ويقظة واضطراب. تبدو رغباتهم وقد فرضت عليهم وتجعلهم يتصرفوا بوحشية في مطارادتهم واندفاعهم وايماءاتهم الغير مطمئنة. لم يقم جويس بالحكم عليهم ولكن كان هناك دائما انذار دائم لنقاط ضعفهم وفشلهم كما انه كان شغوفا بان يصنع منهم قضاه سواء كان الامل الذي يدفعهم جدي او عبثي.
يحكي جويس عن دوبلن على مدار عشر سنوات بعد رحيل تشارلز ستيوارت بارنل، السياسي الايرلندي رئيس الحزب الايرلندي البرلماني ويعد من اكثر شخصيات القرن التاسع عشر تأثيرا، في كتابات جويس تظهر شخصية بارنل بنقاء لا تشوبه شائبة او استهزاء. لقد قدم بارنل ليس فقط امل سياسي ولكن نوعا ما من الامل الروحي المبهم والاكثر. وبذلك تكون قصة Ivy Day in the Committee تعري الطبقة الفارغة للمجمتع بعد موت قائديه بشكل درامي، فيبدأ المواطنون بالتفوه بالاكليشيهات والبحث عن الشراب والصحبة المثيرة للغثيان. الاحساس بالتفاهة وعدم الاهمية في كل سطر وفقرة وفي كل اقتراح لشخصية ما يبدو جليا ان المجد زال وان الضوء قد انطفئ وترك الشخصيات تتلمس طريقها في فراغ غريب.
يتغلف هذا الفراغ بغلاف حزين شفيف حزنا على فقدان القائد، ولكنها ايضا تعج برؤى غريبة للقومية الايرلندية، كأنه شئ تتبناه الناس لجني المال او انقاذ اعمالهم. في Araby في مشهد شارع صاخب يغني بعض مغني الشوارع عن عضو البرلمان أو دونوفان روسا، وقد كان موهوب في العنف القومي.
في After the Race يبدأ والد الشخصية دويل حياته كسياسي وطني ولكن سرعان ما يعدل ارآئه ويتجه لجمع المال. وفي A Little Cloud أدرك تشاندلر ان متجر the Celtic note الموسيقي ربما يساعده في نشر وشهرة شعره في انجلترا. (لم يستخدم جويس حتى اشارة لشعره الخاص بينما لاحظ توماس كيتل في نقد لمجموعته القصصية الاولى "لا يوجد اثر للفلكلور او للهجة شعبية او حتى مشاعر وطنية التي تتلون بها اعمال كل الكتاب الايرلنديين المعاصريين".
في A Mother تحاول مدام كيرني الاستفادة من ابنتها وتدفعها في الحركة الثقافية الايرلندية، حيث ازدهار المواهب الادبية في ذلك الحين كان واسع الانتشار، والاشتراك بالعديد من الحفلات ولكن تقابل جهودها بالفشل. ويحكي والد جيمس جويس عن تلك القصة بأن احداثها مبنية على احداث واقعية حدثت مع جويس في احدى الحفلات الموسيقية. في Dubliners تبدو الجهود المبذولة للهروب من الركود بتبني وجهة النظر القومية مزيفة وغير مثمرة. وهذا يضفي المزيد من البريق الكاذب للشخصيات التي تحاول، انهم اشخاص عادية وليس كما ارادوا ان يظهروا كأمة تسعى الى الحرية. وذلك تأكد من الاشارة الى عدد هائل من العلامات التجارية، فالشخصيات هنا مستهلكون قبل ان يكونوا مواطنون.
في عوليس، اخذ جويس العالم الصغير من Dubliners وقام بتمديده. بينما الشخصية في Grace بمجموعته القصصية الاولى تجعل القارئ يضحك ولكن ذلك ليس متعمدا. انما هم حمقى. في عوليس قدم رجال على قدر من الفطنة ولديهم نوعا من السلاسة الحادة الفائقة في خطابهم الغائب من كتاب القصص. في Grace يحكي جويس عن مستر كيرنان الذي وقع من على سلالم الحانة وجرح نفسه ومحاولة اصدقاءه شفاؤه عن طريق دفعه لاعتناق الكاثوليكية، وهي حادثة وقعت بالفعل لوالده. في هذه القصة حاول جويس ان يحد من ذكاء وخفة دم ابيه. في عوليس، على الجانب الاخر، كانت السخرية لا حدود لها، حتى القوميون يتمتعون بالحس الفكاهي مع محاولات للحد من ذلك. الشوارع المغمورة بالظلام في Dubliners مليئة بالوعود في عوليس. في الرواية يبدو الحالمون والناشدون للتغيير مزدهرون فحسب بالفكر والكينونية والغناء ولقاء احدهم الاخر. يقدم موت قائد عظيم نوعا ما من الانفتاح على المدينة حيث الحياة العامة اصبحت دعابة ويسمح للحياة والافكار واللقاءات الخاصة وحتى ايام الصيف ان تكون لديها بريق وتمتلأ بشكل كامل بالامكانية. اذن فالكتابان يعرضان الفنان في مزاجيين عكسيين. Dubliners يقدم مدينة مليئة بألوان واشباح الخريف والشتاء. انه يقدم صور قوية بشكل كاف لتكون منبوذة في طاقة الكوميديا الحقيقية في عوليس.
في Eveline وClay صنع جويس شخصيتين نسائيتين يعيشوا حياة محدودة ومقيدة ولكن لديهم وعي به من البراءة والرقة اكثر من كل الرجال المتواجدون حولهم.  في Eveline قدم شخصية تحلم بالفرار وكثف وصفه لامالها واحتياجاتها فخلق حياة حيوية لها في اذهان القراء حيث الهروب ليس مستحيلا. وفي النهاية تمتلأ حياتها بالاثارة بالهروب الذي لم يحدث ربما يكون في يوما آخر. في Clay القصة المفعمة بالخسارة وما هو ابعد منها، تتوسط المشهد "ماريا" المعصوبة الاعين تلمس شيئا حيث تحمل عبء تعبر عنه بالشعر رفع الاحداث خلف حدودها في اتجاه فضاء خيالي من الغموض الحالك.
بينما جميع شخصيات Dubliners لديهم خصوصية شرسة فالصورة تتندمج ببطئ مع فضاء خيالي عام اكثر براح وهو المجتمع، مهما كان باهت ومحدود ومفعم بالغياب، الا انه يبدأ في تحديد معالمه. ليس بسيطا ان نستخدم مصطلح "استعمار" لوصف المقيمين في دوبلن، لكن بالرغم من ذلك فكرة انهم يعيشون في مكان ليس لديه الحكم الذاتي السياسي الكامل يجب ان تؤخذ بالاعتبار، ان هناك في الظلال شئ ما كان دائما ضمنا.
من السهل تخيل عن ماذا تدور القصة الاخيرة The Dead، وقعت الاحداث في العديد من المدن الاخرى بجانب دوبلن فالمدن الكبرى مثل دوبلن ليس لديها برلمان وبذلك لا يوجد حكومة. المدن التي تتحدث لغتين مختلفتين او ثقافاتين متباينتين تبدو في حالة تصادم. والمدن التي تحلم باماكن مقدسة في الريف حيث روح المواطنين اكثر نقاءا. المدن الواقعة بين الروح الريفية المملة والقاتلة وحتى احتمالية الكونية الاكثر مللا. دوبلن في The Dead لديها اصداء برشلونة او كالكوتا او ادنبرج في بداية القرن العشرين، حيث الحياة الموسيقية تصلك الى العمق المنشود والاغاني والمطربين يعطوك قوة من السماء.
في كل المدن الاربعة تنتقل الموسيقى من مجرد اداة ترفيهية لتصبح او تحل محل او تقترح ما يفتقده العالم الواقعي. فالاغاني هناك تملك قوة موسيقية وسياسية ايضا. في مجتمعات أخرى، ايرلندا وكاتالونيا والبنغال واسكتلندا، هناك  لغتين دائما في صراع او على الاقل لغة قابعة بظلها القديم ضد اخرى حديثة. من السهل ان تجد انتقاد لمفكر كالكوتي لانه لم يكتب بلغته الاصلية البنغالية او انتقاد لمفكر اسكتلندي لانه لا يرتدي الزي الرسمي "التنورة."
في كل هذه المجتمعات مثل غيرها الكثير، منذ فترة السبيعنيات فصاعدا دائما هناك اخلاص في البداية من قبل الشعراء وكتاب المسرح والرسامين وبعد ذلك من قبل المفكرين والسياسين نحو المناطق الريفية تحديدا. كان هناك اخلاص نحو اماكن خارج برشلونة مثل كانيجو او مونتسني، والريف البنغالي او التلال العالية لاسكتلندا ولجزيرة آران حيث تمنت احدى شخصيات The Dead ان تذهب. هناك اماكن مازالت طبيعية بدائية حيث فكرة الامة بقيت اكثر نقاءا وبساطة.
في The Dead يقدم جويس لنا صورة لهذا العالم في البداية ككوميديا مزعجة او بالاحرى مهزلة. شخصية الانسة ايفورس صديقة الشخصية "كاثلين"، التي تعاني من طمع امها في A mother. تطلب من جبريال ان يتحدث ايرلندي وهي لغته الام، فيصبح هو منغمس في ابتكار التقاليد والتوغل اكثر داخل وطنه. ولكن سرعان ما يتحول صراعه الى تراجيديا وغموض ونقاء شديد الغرابة مثل زوجته جريتا التي قالت بوضوح انها لم تعد تنتمي اليه بل انها تنتمي لعالم اكبر.
مرة اخرى، المناخ العام للقصه مازال موجودا في المدينة حتى الان. فالناس هناك يحتفلون كل عام بعيد الميلاد في نفس المكان ويقوموا بنفس الترتيبات ويرددوا نفس الاشعار ونفس الاغاني والالحان بل يقدمون نفس الطعام ودائما هناك مجموعة من الاصدقاء تبقى للنهاية لتستمع لاغاني خاتمة الحفل والتي تمنحهم مشاعر خاصة قبل ان يجلسوا خارج الحانة تحت اضواء ديسمبر الاخيرة.
تحولات جابريال في The dead ربما تكون منحته اكثر شخصية تتمتع ببراءة في كل المجموعة القصصية في حين انه مثقف ولديه وعي بذاته. التفكير والملاحظه بالنسبة له ليس الا شكل من اشكال الضعف. فاستعلائه على عماته الانيقات، ليلي والانسة ايفورس والشخصيات الاخرى يعكس عزلته. في فشله لاحتضان العالم يحمل القارئ معه في طريق وحيد لطفل مهووس بغرابة في اول ثلاث او اربع قصص. هو متخم بالغموض وهذا يعني ايضا الفخامة والتفوق والعصبية والاستياء على السواء. انه فخور لكنه مقيض ومهدد. انه يعيش في هوس المعرفة التي لم تساعده على التأقلم في هذا العالم.
القصة رغم كل شئ لديها قراء اخرين. لكل قارئ قام بزيارة المنزل في جزيرة آشر فوق رصيف ميناء دوبلن حيث تقع احداث القصة حيث عاش جويس لفترة مع عماته العظيمات اللاواتي عشن مع بناتهن. من السهل مثلا ان نتخيل ان جويس ابتكر مكان ومناخ بل وناس يتذكرهم ويحبهم ولكنهم حقيقة وقد اعرب عن اسفه لخسارتهم. في ابتكار جابريال ابتدع رؤية لنفسه مهزوزة وغير واثقة وانتقده اصدقائه في بعض الاحيان لانه يعاني نقص في المشاعر الوطنية وكذلك والده الذي استخدم لهجته في كلام جابريال. وفي ابتكار جريتا ابتدع جويس رؤية لزوجته نورا وصور هوسه الطويل بالخيانة الجنسية والتي ظهرت في خطاباته وفي مسرحيته Exiles وروايته عوليس. لقد كان ذلك الهوس في نفس مستوى هوسه بايرلندا او دوبلن.
في نهاية the Dead كما في نهاية عوليس حاول جويس ان يصنع صورة كلية ربما تنقل السرد لفضاء اوسع في محاولة لانهاء عدة ايقاعات غامضة ذات نهايات مفتوحة للتنصل من صعوبات الرؤية التي لا بديل عنها. ومع ذلك فان في الجذور الفنية الراديكالية لجويس والتي تسمح للمعاني والآثار المختلفة ان تحيا ضمن قصته النهائية  فلا شئ يسيطر سوى الفكرة الغامضة لجوهر الاشياء وصمت رجل حداثي في وجوههم. 


ترجمة: اميمة صبحي

نُشر في أخبار الادب - 2012

نهاية التيار المحافظ


يقوم كتاب سام تاننهاوس في معظمه بتقييم الرؤساء الحاليين. على سبيل المثال، "أخر ست رؤساء جمهوريين، ثلاث منهم (نيكسون، ريجان، جورج بوش الابن) كان لديهم نزعات قوية إلى حركة التيار المحافظ بينما (ايزنهاور وفورد وجورج بوش الأب) لم يكن لديهم.". لقد ضم أخر ثلاثة عظماء إلى أول ثلاث. ولكن هذا لم يكن الحكم الشعبي على هؤلاء الرجال. ومع ذلك فان نيكسون وريجان من الرؤساء الذين أعيد انتخابهم لفترة ثانية أما فورد وجورج بوش الأب فلا. بجانب أن في أحدث استطلاع للمؤرخين لتقييم الرؤساء احتل ريجان المنزلة العاشرة بينما بوش الأب المنزلة الثامنة عشر وفورد في الثانية والعشرون. وهنا نجد أن تاننهاوس يستخدم مقياسه الخاص في تقييم الرؤساء ما بين الجيد والسيئ، بعيدا عن النجاح الانتخابي أو السمعة التاريخية. ولقد لاحظ أن أول ثلاث رؤساء المتجهين للتيار المحافظ تعدوا على القانون مثل فضيحة وترجيت وقضية إيران- كونترا واتفاقية جنيف. بينما أخر ثلاثة رؤساء احترموا الدستور.
ويرى تاننهاوس نوعين من ما يسمى بالاتجاه المحافظ. فحركة الاتجاه المحافظ تعتبر تحريرية، على سبيل المثال تنادي باستعادة الثقافة بشكل عاجل. كما إنها تعتبر ثورية، ترغب في سلطة تنفيذية غير مشروطة كما أتضح ذلك في فترة رئاسة معتنقيها. وذلك يعطي الأولوية للنقاء الأيديولوجي عن تسوية الخلافات حتى ولو أن هذا يعني محاربة الحكومة من داخل الحكومة نفسها. فهذه حركة محافظة غير شرعية. فإنها لا تحافظ على النظام المطبق وتغييره ليكون أفضل. هذا هو عمل المحافظين بحق مثل ادموند بورك* وبينجامين دزرائيلي** الذين حقا يحافظون بدلا من التخريب.
بجانب النماذج الحديثة التي يعطيها لأتباع بورك "المحافظون الجديرون"، جاء تاننهاوس بتقييم أخر غير اعتيادي مكون من ايزنهاور وبيل كلينتون: "هما رئيسان جدان لحقبة معاصرة من التيار المحافظ، وهما الأفضل" لماذا؟ "فكلا من ايزنهاور وكلينتون جاهدا من اجل حركة محافظة محايدة في الكونجرس، وكلاهما نجح في ذلك".
من الواضح أن تاننهاوس لديه طريقة مبتكرة في التعامل مع التاريخ. فبامكانه أن يكتب، على سبيل المثال، "أن مواهب نيكسون كانت استثنائية. ولا يوجد رئيس معاصر استطاع أن يتفوق على مهارته الواضحة. في الواقع، لقد كان من أكثر الحاصلين على أصوات انتخابية في التاريخ". بالرغم من أن نيكسون كان مؤيدا لحركة المحافظين، إلا انه كرئيس تحول لأتباع بروك ليس فقط في سياسته الخارجية (الانفتاح وزيارة الصين) بل أيضا بادرته لقضايا الفقر الداخلي وبرامج الأسرة الموحاة إليه من قبل دانيال باتريك موينهان السناتور الأمريكي المحافظ المؤيد لآراء دزرائيلي. فقط عندما قامت مهارات نيكسون الخاصة بتدميره، انتزعت حركة المحافظين إنجازاته:
فلقد ثبتت فضيحة ووترجيت هيمنة الحركة التحريرية. في فترة عشرون عاما ابتداءا من 1968 إلى 1988، فصعد الجمهوريون للرئاسة لأربعة من خمس فترات رئاسية.
هل قادت التحريرية النصر في الواقع بعد ووترجيت؟ لا، منذ أن اكتشف تاننهاوس روح بروك في ريجان أيضا، رجل أخر يتخلى عن حركة المحافظين فقط ليظهرها لهم. فلقد رفع ريجان الضرائب ولم يقلل من دور الحكومة، وارتباطه بمحادثات الحد من التسلح (محادثاته السرية مع ميخائيل جورباتشوف)، وإدارة نهاية الحرب الباردة. ولكن ريجان أبقى التحريرية بطرق تجاهلها تاننهاوس - على سبيل المثال تعيين ريجان لادوين مس لمنصب المدعي العام وهو الذي انشأ واستخدم فكرة السلطة التنفيذية المركزية، الفكرة المؤسسة للمجتمعات الفدرالية.
يبدو أن التحريريين إلى حد ما مقارنة بأتباع بورك لديهم مخطط فوضوي أكثر مما اظهر تاننهاوس الأمر في البداية. ومما يزيد من هذا التعقيد فرض تنازع مختلف عليه. تقول فرضية الصحفي صاموئيل لوبيل "لا يوجد لدينا نظامين متنافسين ولكن "نظام شمسي"، الحزب الأول "الشمس" يهيمن لفترة من الزمن، بينما الحزب الآخر "القمر" دائما المرؤوس.
يقول تاننهاوس أن الديمقراطيون كانوا الشمس حتى حالة الرفاهية-الحرب، الذي أمليت من قبل "مجتمع ليندون جونسون العظيم"، فاقدا الطبقة المتوسطة عام 1968. ثم أصبح الجمهوريون هم الشمس (على الرغم من فترات كارتر وكلينتون الفاصلة) حتى عام 2008، حتى سمحت الحرب الباردة من نوع المانوية والأصولية الدينية في سنوات بوش للديمقراطيين أن يعودوا على الساحة كشمس مرة أخرى. هذا هو موت حزب المحافظين "بالرغم،على نحو مربك، انه لا يعتقد أن الحركة الجمهوريين حركة محافظة حقيقية".
يعد تاننهاوس تلميذ بالغ الذكاء للمحافظين الجدد. فلقد كتب سيرة الكاتب والجاسوس الأمريكي ويتكر تشامبرز الخبير في شئون بلدة باكونسفيلد "وقد كان دزرائيلي حاكم هذه المدينة الإنجليزية التجارية"، كما انه قضى بعض الوقت في العمل على سيرة الكاتب المحافظ ويليام فرانك باكلي. هذا الكتاب الصغير هو نوع من أنواع الاتصال بين مشروعيه الكبيرين، كما انه يناسب نموذجه التحريري – المحافظ. تشامبرز وباكلي، بالرغم من إنهم أصدقاء، إلا إنهم بدأا من النهايات المتضادة لسلسلة المحافظين. باكلي، الذي أشاد بشهادة تشامبرز ضد الشيوعية، حاول بكل سحره وإغرائه أن يجعله محرر في مجلة "ناشيونال ريفيو" التي أصدرها عام 1955. ولكن تشامبرز فكر في السناتور جوزيف مكارثي، المؤيد للمجلة، سيقضي على الجمهوريين. بجانب انه كان مخلص لتحالفه مع قضية ألجر هيس الذي اتهم بالتجسس لحساب الاتحاد السوفيتي ومخلصا لريتشارد نيكسون ودوايت إيزنهاور الذي دعم نيكسون حين كان نائبه، بالإضافة إلى معارضة المجلة لهم كمتنازلون خونة. (في عام 1956 كان يوجد محرر واحد بالمجلة وهو جيمس بارنهام وخلفه اندراوس ايزنهاور بعد إعادة انتخابه).
ولكن في عام 1957 استطاع باكلي في النهاية أن يهزم تشامبرز، فمع الكثير من الهواجس انضم تشامبرز إلى المجلة. وكتب الصحفي الأمريكي ميراي كيمبتون أن تشامبرز أخيرا يعمل مع مدير بامكانه احترامه – "أصبح رؤساء تشامبرز في العمل كولونيل بيكوف رئيس وكالة التجسس السوفيتية بالولايات المتحدة والراحل هنري لوس وجون اف اكس ماكجوي الذي تولى منصب وكيل وزارة العدل الأمريكية للمنطقة الجنوبية من نيويورك". اضطر تشامبرز لاحقا إلى التخلي عن المجلة لأسباب صحية ولكن بقى بينه وبين باكلي اتصال منتظم، تشامبرز يقدم نصائحه التي يحترمها باكلي. وقد جعل تاننهاوس القضية هي قدرة تشامبرز على تحويل باكلي من تحريري إلى محافظ. ولكن كيمبتون، الذي درس الشخصيتين عن قرب، يشك أن نصائح تشامبرز كانت تؤخذ على محمل الجد: "باكلي يبجله ولكنه لا يستمع إليه: فرأي تشامبرز مثل أيقونة قديس معلقة في الكنيسة ولكن رسالته أبدا لا تسمع".
يتتبع تاننهاوس التناظر العكسي لتقدم ايرفين كريستول من أتباع الاتجاه المحافظ الحديث إلى التحريرية، وتطور باكلي في الاتجاه المعاكس. بالتأكيد في أواخر عام 1962 كان باكلي لا يقل تطرفا عن أيا من هؤلاء الذي أدانهم تاننهاوس كمحافظ الاتجاه. في نفس هذا العام، كتب باكلي مقال يقول إذا كانت هزيمة الشيويعة سيتبعها إبطال السلاح النووي، فهو إنجاز يستحق الثمن: "فإذا كان صحيحا أن فردا واحد على استعداد لان يموت بسبب قضية عادلة، فبالتأكيد انه صحيح أن حضارة كاملة على استعداد لان تموت من اجل قضية عادلة". ولكن تاننهاوس يعتقد أن باكلي بدأ أن يكون واقعي أكثر خلال حملته المتكلفة لرئاسة بلدية نيويورك في عام 1965، وبعد ذلك تقاربت وجهات نظره أكثر وأكثر مع آراء تشامبرز. ففي مقابلة صحفية مع باكلي عام 2007 وجده تاننهاوس متشكك في الاتجاه المحافظ الذي ساد فترة رئاسة جورج بوش الابن على سبيل المثال لقد كان منتقد حرب العراق بشدة.
ومن الواضح أن باكلي قد عمل طويلا على أن يحتفظ بمجلته "ناشيونال ريفيو" لتكون حرة من أصوات اليمين المتطرفة - أعداء السامية من اللوبي الحر، موضوعانية آيان راندي واختلال مجتمع جون بيرتشر وعنصرية جورج والاس. فإذا كانت المجلة مازالت تعرض الأصوات اليمينية المتطرفة فان تاننهاوس يبرر هذا على انه جهود أتباع الفكر المحافظ الحديث لتجميع المحافظين في مكان واحد. وقد اخذ باكلي هذا الرأي بنفسه. عندما كتبت له عام 1970 قائلا أن المجلة حادة النبرة ولكنها غير مهتمة بالحقيقة، كتب لي قائلا "لديك كل الحق فيما يتعلق بالمحرر جيفرب هارت، أنا ممنون لرأيك هذا، فكما ترى أن المجلة تترنح على حافة الهاوية". وفوق ذلك من الصعب أن نصدق باكلي التابع للفكر المحافظ الحديث عندما يمجد تاننهاوس لتميز سياسات نيكسون وريجان الفعالة، انفتاح نيكسون وزيارة الصين ومحادثات ريجان العسكرية ينكرها باكلي بعد فترة من التحول لآراء تشامبرز التي رسمها تاننهاوس في أواخر الستينات.
للإيضاح الكامل، لابد أن أقول أن تاننهاوس قال عني أشياء لطيفة في كتابه، في المقام الأول بسبب إني عندما كنت في السادسة والعشرون من عمري كتبت مقال أدرجه باكلي ضمن مختارات من كتابات المحافظين. توقعات تاننهاوس لاقت جهودي في الفكر المحافظ الحديث والذي من الممكن أن يكون دقيق بالرغم من اعتمادي الكلي على القديس أوغسطين والقس الروماني جون هنري نيومان. لم أر أبدا للمقال أي تأثير على باكلي ربما في جزء منه لأنه لا يعرف إلا القليل عن أوغسطين ونيومان وهذا شئ محرج. ما اقتبسته من نيومان كان سلسلة خطاباته العامة المعادية للحرب أثناء فترة حرب القرم. لقد قال أن الدستور الإنجليزي جيد للتقدم، كما يجب أن يكون، بينما، هنا ملحوظة محافظة، ما يجب حفظه هو المجموعة الأساسية من المعتقدات والإيمان الراسخ والقواعد والعرف والعادات والحكم الشعبية والمبادئ".
ولكن التقدم ليس كافيا في الحرب كما اثبت في حرب القرم ببلاكلافا "هجوم الكتيبة الخفيفة"، أو مجزرة ماي لاي التي أقامها الأمريكان في فيتنام أو الفلوجة في العراق. فالحرب خلاف الحكومة الدستورية، يقول نيومان، "أن الحكومة الاستبدادية هي الأفضل في حالة الحرب، بينما الحكومة الشعبية هي الأفضل في حالة السلم". فباكلي كان مخلصا لحرب فيتنام حتى النهاية الأليمة، ورغم انه رأى أخيرا حماقة العراق فانه لم يكن في حاجة إلى مساعدة بروك ليعرف ذلك- في الحقيقة معظم الشعب الأمريكي رأى ذلك من تلقاء نفسه.
درس تاننهاوس شخصية باكلي عن قرب، ولابد انه يعرف الكثير عنه عن ما اعرفه أنا، لذا من المحتمل أن سيرته الذاتية ستجعل الأحكام التمهيدية المشار إليها في ذلك الكتاب المختصر أحكام صادقة. الآن لدينا آراء واضحة في العقود القليلة الأخيرة عن السياسي، الشائك، صاحب الرؤية والاستفزازي الأمريكي باكلي. فلقد جعلنا نرى كل شئ من زاوية مختلفة. وبصرف النظر عن آراء باكلي الأخيرة، فان تاننهاوس صنع قضية قاسية ومقنعة ضد ما يحاول جورج دابليو بوش أن يقدمه على انه اتجاه محافظ شرعي:
ولاحقا كانت العراق، الحدث الذي شكل فترة رئاسة بوش، ووفقا لمعظم الآراء، ألقت به وباتجاه المحافظ إلى الانهيار.... فحرب العراق كانت أكثر الأحداث خلافا في الفكر المحافظ الكلاسيكي. غير مباليين إلى الاحتياجات الفعلية للمجتمع المدني داخل أمريكا، فان مخططي حرب بوش على العراق لم يعطوا أي اهتمام لمدى صعوبة خلق مجتمع مماثل في ارض بعيدة ذات خلفية تاريخية مختلفة تماما. هذا بجانب الادراة التي تحاول أن تجعل هذه القضية مهمشة أو ممحاة من جانب السلطة.
على الأقل لم يكن هناك نفحة من بروك في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ادموند بروك: مفكر ايرلندي من رواد الفكر المحافظ الحديث.
** بينجامين دزرائيلي: بريطاني محافظ وتولى رئاسة وزراء بريطانيا مرتين


ترجمة: أميمة صبحي
نُشر في وجهات نظر 2009 

لماذا دائما يفوز جولدمان؟

ما الشئ المشترك بين المصرفيون الاستثماريون، منظمي الأعراس، مديري الجنائز، والمعلقين على إعلانات الأفلام ذوي الصوت الأعلى دوما من الممثلين؟ رسوم عالية لمغامرات كبيرة، صفقات لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر

لماذا دائما يفوز جولدمان؟

في صيف عام 2000، طار بي ديفيد بوور، احد أحفاد مؤسس شركة ""Standard & Poor، بطائرته النفاثة الخاصة إلى منزل عائلته بنانتوكيت في ولاية ماساتشوستس الأمريكية.
أنا على ثقة انه لن يتذكر إني فعلت ذلك. في ذلك الوقت، كان هو رئيس شركة ميريل لينش "Merrill "Lynch للخدمات التمويلية، وكنت عامل منتسب في الفترة الصيفية بقسمه. المرة الوحيدة التي حصلت فيها منه على أكثر من لمحة كانت في تلك الأجازة الأسبوعية، حينها كنا انتهينا للتو من ماجستير إدارة الأعمال ونحاول أن نلفت انتباه رئيسنا في العمل بخيلاء ونحن نرتدي قميص صيفي غير أنيق أو سروال مجعد جديد ماركة ""Nantucket Reds.
في بيت والدته الريفي تجمع عدد قليل من السيدات يتحدثن أحاديث تافهة، لقد قضيت هذه العطلة بحذر شديد احتسي مشروبات منعشة ومحاولا التلاشي في الأريكة.
بعد مرور أسابيع بعد هذه المحنة بقيت حائرا. لماذا يقوم ديفيد بوور، وميريل لينش بالتباعية، بإنفاق الكثير من المال من أجلنا؟ لقد كنا جميعا أمريكيين رائعين، أنا متأكد من ذلك، ودرسنا البيزنس في جامعات مرموقة, لكن في هذا الصيف، وكل صيف، عشرات من مئات الشباب دارسي إدارة الأعمال يكدحون بعيدا في سعادة داخل طرقات ميريل لينش البيجية اللون حتى ولو بدون وجبات طعام. بالرغم من فقد هذه الشركة للقليل منا حيث ذهبوا إلى بنك جي بي مورجان تشايس أو بنك جولدمان ساتشز، إلا انه كان من الممكن استبدالنا بدون أي جهد. ولكن الشركة لم تكن تعاملنا كمن يقوم برحلة وتعطينا غداء فخم فحسب ولكنها أيضا كانت تدفع لنا 25.000 مقابل العمل لمدة 10 أسابيع.
لقد استخدمت كلمة "عمل" بشكل موسع إلى حد ما. فلقد امتد تدريبي الصيفي حتى الربيع اقضي الوقت في ردهة حجرة التدريب، مراقبا بورصة نازداك. في الوقت الذي نعد فيه تقرير ضريبي في منتصف شهر يونيو، انخفض مؤشر التقنية الثقيلة خاسرا نحو 1.300 نقطة من ذروتها في شهر مارس الذي وصل إلى 5.132.
قبل الانهيار اخبرنا الموظفون المتحمسون أن بنوك ميريل لينش ستكون بخير مهما حدث، ففي السوق الصاعدة طرحوا الاكتتابات العامة IPOs  وفي الأسواق الهابطة سيقومون بعمليات الاندماج والاستحواذ وإعادة شراء الأسهم بدلا من ذلك. تحول هذا التنبؤ إلى وهم مثل نشرة شركة pets.com  ضعيفة الأساس. فكان المكتب كضريح جيدا تماما. فلقد قضينا معظم أيامنا وليالينا في تأدية ما يشبه رقصة الكابوكي اليابانية متظاهرين بإنجاز عمل للرؤساء الذين يعرفون بالطبع أن لا يوجد عمل لنا. بينما العشاء والرحلات والراتب الوفير في استمرار.
لماذا؟ لقد اتضحت لي إجابة السؤال في إحدى شهور أغسطس بينما احتسي شراب الكوكتيل في حانة P. J. Clarke's ، المنطقة المالية الشبيهة بنسخة معدلة من سوق اللحم. هناك شريك آخر واضح، تافه كالبوم، التفسير هو "7%".
حيث ثبُتت التحليلات الجديدة معدل "الانتشار الإجمالي"، أو الرسوم، في طرح الاكتتابات العامة، وهو النوع الوحيد من الصفقات الحية التي عملت عليها في ذلك الصيف. لتتأكد بنفسك، قامت ميريل لينش باقتسام هذه الرسوم مع البنوك الأخرى. ولكن عندما أصبحت مئات الملايين من الدولارات، كما تصبح دائما بسهولة، أمست النسبة البسيطة تساوي كثير من المال. بالتأكيد المحاسب المختص أو السكرتير القانوني قد قاموا بالشق الأكبر من عملنا. ولكن في رسوم البنوك كانت رواتبنا تحسب كخطأ حسابي ينجم عنه تقريب الأرقام لأقرب عدد عشري.
ولكن يبقى السؤال، لماذا لا ينافسوا بخفض رواتبنا إذا كانوا يستطيعوا ذلك؟ أكاد أن اجزم أن إذا عيُن ديفيد بوور ومديريه دارسي ماجستير ادراة الأعمال من جورج تاون ونوتردام عوضا عن هارفارد وشيكاغو، فإنهم كانوا سيجدوا ما يفعلوه بالمال المقتصد.
يبدو السؤال ملائما تماما في هذه الأيام، وغامض، أكثر من أي وقت مضى. بتسريح موظفي البنوك الذي انتشر في الأسواق ستفكر أن الرواتب أخيرا قد انخفضت. ولكن حتى أعضاء الكونجرس الغاضبين يبدو إنهم لديهم تأثير محدود على كم استعداد الصناعة المالية لدفع رواتب موظفيها. التحقيقات والخطب اللاذعة نجحت فحسب في إجبار الشركات على دفع المزيد من المكافآت كرواتب بدلا من صرفها كعلاوات، كما لو أن القضية الأساسية لصرف الرواتب الضخمة في إنقاذها التدريجي للبنوك كانت توقيت الصرف.
لنفهم لماذا يبدو الدفع المصرفي غريبا باصرار، لابد أن نفكر في صناعة أخرى مغلفة برواتب وفيرة جدا وهي صناعة إعلانات الأفلام.
إلا إذا كنت أصم أو كنت تعيش في اعتكاف ديني في الأربع عقود الأخيرة فانك بالتأكيد سمعت صوت دون لافونتاين الأمريكي المشهور بقوة في مجال صناعة إعلانات الأفلام والذي يعرف باسم "صوت الله". صوته الأجش الاوبرالي يُبسط الجمل ويقربها للجمهور كجملة "في عالم حيث..." ويغوينا فيلما بعد فيلم بداية من فيلم دكتور سترانجلوف إلى فيلم آل سمبسون. عندما توفى العام الماضي عن عمر يناهز السادسة والثمانين ذُكر في نعيه أن الدون كان راتبه تقريبا 30 مليون دولار في العام من جراء تسجيله لإعلانات الأفلام وللإعلانات التجارية.
بالفعل يعتبر هذا مجرد اجر، خاصة عندما يُحلل إلى اجر بالساعة.  في خلال فترة عمله الطويلة، سجل لافونتاين أكثر من 5.000 إعلان تلفزيوني وآلاف المئات من الإعلانات التجارية التي تفصل بين البرامج، ولكن بصوت أعلى كثيرا من صوت الفنانين الذين يخرجون قليلا من المناخ السينمائي ويقوموا بتسجيل إعلان لا يقل عادة عن دقيقتين ولا يطول عن خمس. شئ واحد يجعل توم كروز يتقاضى 25 مليون دولار في الفيلم الواحد وهو انه يقوم بتمثيل فيلما واحدا فقط في العام، حيث يجذب قاعدة كاملة من معجبيه ولكن لا يقوم أي شاب بسؤال فتاة لمواعدته إذا عرف إنها راغبة في رؤية إعلان فيلم جديد بصوت دون لافونتاين.
وبالرغم من ذلك، تنمو صناعة إعلانات الأفلام لتصل تقريبا إلى 100 مليون دولار، وتستمر الشركات في تعيين زمرة من المحنكين في هذا المجال الذين يدفعون بشكل جيد، بدلا من إعطاء هذا العمل لعدد من الممثلين الجائعين للفت انتباه شوارع لوس أنجلوس. وبالنظر إلى اقتصاد صناعة الأفلام فان هذا التصرف قد بدأ أن يكون له معنى.
بدأ دون لافونتاين سنوات عمله الأربعون عندما لفظ نظام أستوديو هوليوود القديم أنفاسه الأخيرة. القوات التي قضت على احتكار الأستوديو قضت أيضا على احتكار خدمة الشاشة الوطنية National Screen Service  التي كانت تقوم بإنتاج كل إعلانات الأفلام لمدة تزيد عن 40 عام. في أعقابه، بدأت الشركات المستقلة تنافس على العمل المربح، وتدريجيا بدأت تحل محل الإعلانات الرسمية التي تفصل بين البرامج التي كانت تعرض على شاشة Turner Classic Movies  حيث كان يظهر الممثل الكوميدي بوب هوب على الشاشة ليخبرك كم ستكون صورته التالية رائعة.
لأكثر من سنوات، التغييرات التي حدثت تضافرت لجعل إعلانات الأفلام والتلفزيون التجارية أكثر أهمية. في البداية كان التلفزيون ثم الفيديو وأخيرا الـDVD  الذي قلل من عدد المرات التي يذهب فيها الجمهور لمشاهدة الفيلم في دور السينما. أثناء طفولتي، شاهدت فيلم "حرب النجوم" لأكثر من 17 مرة عندما عُرض لأول مرة. ولكني بالكاد أستطيع أن أتذكر اسم لفيلم واحد شاهدته مرتين في دار السينما منذ تخرجي من الجامعة.
في أول عطلة أسبوعية بعد عرض "حرب النجوم" حقق هذا الفيلم 1.5 مليون دولار كان هذا في أواخر مايو عام 1977، ثم وصل في ذروته إلى 7.7 مليون دولار في أول عطلة أسبوعية في شهر سبتمبر. وفي بداية ديسمبر، كان مازال يحصد أكثر من مليون دولار أسبوعيا. هذه الأيام، تنشر الأفلام على اسطوانات DVD .
بسبب القرصنة والمنافسة الشديدة في سوق الـDVD ، لم يعد هناك متسع من الوقت للأفلام لتستطيع جمع جمهورها. فهم في حاجة إلى الصراخ خارج الأبواب، وجمع الكثير من المال في أسابيع قليلة، ثم يتراجعوا ليَُخرجوا دورة حياة الفيلم الجديدة للساحة الدولية ولتنظيم العرض الأول في التلفزيون وكيفية توزيعه في اسطوانات الـ DVD. لذلك تحتاج الإعلانات المروجة للأفلام إلى جذب المراهقين المتشوقين لكل ما هو غريب وغير مألوف، أما الجمهور المستهدف الناضج لصناعة الفيلم فأنهم خارج دار السينما بأعداد هائلة. الاستثمار الهائل في الترويج الرفيع هو ما يجعل اناس مثلي يقولون أن إعلان الفيلم هو الجزء المفضل منه. حتى إذا لم يجن الأستوديو أرباح من شباك التذاكر المحلي، كما يحدث معظم الوقت، فالمبيعات العالية في شباك التذاكر تساعد في بيع الفيلم في الأسواق الأجنبية.
عندما بنفق الأستوديو عشرة ملايين من الدولارات لإنتاج فيلم ثم عشر ملايين مثلهم ليعلن عنه، ثم يدفع راتب شحيح لمعلق إعلاني سئ يُفسد كل هذا الجهد. كما يمكنك أن تدفع لشخص ما يقوم بدور خليفة دون لافونتاين 300.000 دولار في الإعلان وتظل تحصل فقط على نسبة ضئيلة من الميزانية الفعلية للفيلم. فالصوت السيئ سيكلفك أكثر كثيرا من ما تتمنى أن تكسبه. عندما يكون لديك فرصة واحدة لتفعل هذا بشكل صحيح، فانك ستميل إلى فتح حافظة نقودك ثم تصلي لله. لذلك فان الاتفاقات لتصوير لقطة واحدة فقط مكلفة بشكل مرعب وهذا هو المنطق الذي يسود حفلات الأعراس والجنائز والدبلومات الجامعية.
نفس المنطق يوضح لماذا ينوي العملاء دفع رسوم سخية لبنوك الاستثمار للقيام بالاكتتاب وبالعروض الثانوية والاكتتاب في السندات والاندماج والاستحواذ والعمل الاستشاري. غموض استثمار الرسوم البنكية غالبا ما يتحدد كنوع من مديري البنوك المخادعين الساذجين أو المديرين الذين يغدرون بمساهميهم في مقابل مكان شاغر في طائرة ميريل لينش الخاصة. ولكن الرأسماليون المغامرون الواقفون خلف الكثير من الاكتتابات العامة ليسوا مبتدئون تحت رحمة المصرفيين الكبار، فهم ومديري الشركة يعتمدون على الاكتتاب العام القوي وسيولة ما بعد البيع لان هذا يسمح لهم باسترجاع جزء من أموالهم الموجودة خارج الشركة. فإذا تسامحوا فيما يخص الرسوم الكبيرة فلابد من وجود سبب لذلك.
عندما قام البنك الاستثماريWR Hambrecht + Co  بإقناع شركة جوجل لاستخدام مزاد لاكتتابها العام في 2004، كان هناك أحاديث كثيرة عن نهاية الاستثمار البنكي التقليدي. بعد مرور خمس سنوات أصبحت شركة جولدمان ساكس مهيمنة أكثر من أي وقت مضى، كما أصبحت المزادات نادرة الحدوث. يمكن لشركة جوجل أن تعتمد على اسمها لبيع الأسهم وخلق سوق ثانوية قوية حيث يمكن لموظفيها ممارسة حقهم في بيع أو شراء الأسهم. ولكن معظم الشركات في حاجة إلى مساعدة أكثر. بالرغم من أن جولدمان ساكس قد لا يكون صفقة إذا كنت تقوم باتفاقات من نوع "تصوير اللقطة الواحدة"، فانك قد تريد أن تدفع أكثر لتسمع شئ واحد لن يستطيع المُدعِ الجائع أن يقوله لك: أن الشركة تدرك كيفية قيادة الوضع الحقيقي والمعقد وذلك لأنها فعلت هذا الأمر كثيرا من قبل.
بالطبع، الاكتتاب ليس هو المكان الوحيد الذي تصنع فيه الشركة المالية والعاملون أموالهم. ولكن منطق "صفقة تصوير اللقطة الواحدة" يطبق على مدفوعات التجار وآخرون كثيرين. وقت الحساب سيأتي سواء كانت الصفقة جيدة أم لا، هذا الوقت صعب لدفع الدين قبل استحقاقه وإذا سارت الأمور بشكل خاطئ فمن الصعب إصلاحها . في هذه الحالات، حتى الإشارة لوجود مهارات ضعيفة، بوسعنا ضرب مثال بمتدرب حاصل على ماجستير إدارة أعمال من مدرسة عليا، فان الحصول على مكافأة مجزية أمر مستحق.
لم احصل على عرض عمل دائم من ميريل لينش في نهاية الصيف، فكلا من الشركة وأنا أدركنا مبكرا إني لا امتلك نزعة داخلية للاستثمار البنكي. (حتى في صفقة "تصوير اللقطة الواحدة"، الإشارة الضعيفة تصل بك إلى هذا الحد). العديد من زملائي الذين حصلوا على عرض العمل كدحوا لعام أو اثنين ثم تم وقفهم عن العمل أو تركوا هذه الوظيفة لأخرى تسمح لهم برؤية الشمس من حين لآخر.
ولكن الذين بقوا في هذا المجال استطاعوا أن يجمعوا مالا وفيرا، وساعدوا في تدعيم استحواذ كونجرسي آخر (رفع أمريكا للدخل بشكل متفاوت). وتقترح الأدلة المتنامية أن تضخم القطاع المالي الفادح فسر جزء كبير من الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء على مدى العقدين الماضيين. حتى بالنسبة إلى شخص متحرر بشكل جوهري مثلي فان هذا يمثل مشكلة. فالأسواق المالية مساهم ذو قيمة كبيرة في الاقتصاد. ولكنها ليست بالقيمة التي تجعلها تمتص معظم الزيادة في الدخل خلال العقود القليلة الماضية.
بينما يمتثل هذا المقال للطبع، أُعلن جولدمان ساكس لتوه تحقيق أرباح قياسية، والتفت الإشاعات حول المعيار السنوي الجديد لراتب المصرفي. كم من الوقت يمكن لذلك أن يستمر؟ في كل مرة يتم الإعلان عن علاوة احد المصرفيين، يصيح الكونجرس، ويبحث موظفيه عن طريق شبه قانوني لتغطية الرواتب المالية. ولكن البحث الأخير للاقتصاديين توماس فيلبون وارييل ريشف يقترح الآتي عندما يسمح تحرير الأسواق من السيطرة الحكومية للقطاع المالي المعقد ولاسيما في ميادين الاكتتابات العامة ومخاطر الائتمان التنافسية، فان أجور العاملين الممولين ستبقى في تضخم خطير نسبة إلى العاملين في باقي مجالات الاقتصاد.
هل يستحق الأمر حزم التعقيد والمخاطر من اجل الحد من راتب المصرفي؟ الآن، تبدو الإجابة واضحة. ولكن التكنولوجيا والفقاعات الائتمانية خلقت ودمرت في نفس الوقت، بافتراض أننا نخطط للحد من كساد النشاط الاقتصادي والوظيفي الحالي، لن نكون بالضرورة أفضل حالا في خمس سنوات أو عشر إذا حاولنا طرد العائدات الزائدة خارج القطاع المالي.
للأسف، التنظيم نفسه واحدا من صفقات "تصوير اللقطة الواحدة"، لن نعرف حتى وقتا طويلا إذا ما كنا قد فعلنا ذلك على نحو صحيح أم لا. ربما يجب على العم سام أن يقضي وقتا اقل في القلق على رواتب المصرفيين ووقتا أكثر في التودد إلى المنظمين المتوقعين لرحلة خيالية فوق طائرة خاصة.



ترجمة: أميمة صبحي
عن دي اتلانتك - نُشر في وجهات نظر

Wednesday, December 26, 2012

كلب لوركا الأندلسي


Un Chien Andalou

العين المشرحة بشفرة الحلاقة والسحابة المجزئة لقمر في فيلم بنويل ودالي "كلب اندلوسي" الذي تم إنتاجه في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات تحديدا عام 1929 خلال أوج صداقتهما مع لوركا. وهو فيلم مدته 16 دقيقة تم إنتاجه في فرنسا وهو من أعظم الأفلام السريالية التي أنتجت في عشرينات القرن الماضي، فيلم بلا حبكة درامية بالمعنى التقليدي للكلمة، وتسلسله الزمني مفكك فيقفز ثمان سنوات إلى الأمام من بدايته "حدث ذات يوم" دون أحداث أو وقوع أي تغيير في الشخصيات مستخدما منطق الحلم. 



تجديد القيادة الامريكية

بعد حرب العراق قد يكون علينا الاتجاه إلى الداخل والانطواء على أنفسنا ولكن هذا هو الخطأ بعينه. اللحظة الأمريكية لم تمض بعد فقط علينا إعادة اغتنامها من جديد. فلابد من وضع نهاية على قدر من المسئولية للحرب ثم تجديد قيادتنا العسكرية والدبلوماسية والأخلاقية لنواجه التحديات المفاجئة ونستفيد من الفرص الجديدة. فالولايات المتحدة الأمريكية لن تتمكن من مواجهة تحديات القرن الجديد بمفردها وكذلك لن يستطيع العالم بدونها.

باراك اوباما، سناتور ديمقراطي من ولاية ألينوي ومرشح الديمقراطيين لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.

أمن مشترك لإنسانيتنا المشتركة
في اشد الأوقات خطرا في أواخر القرن الماضي، حاول الرؤساء الأمريكيين فرانكلين روزفلت وهاري ترومان وجون كينيدي حماية الشعب الأمريكي وفي الوقت ذاته زيادة الفرص للجيل القادم. والأكثر من ذلك إنهم حافظوا على الولايات المتحدة الأمريكية بالقول والفعل وقادوا وارتقوا بالعالم من حولهم، ووقفوا وحاربوا من اجل الحريات التي سعت ورائها البلايين خارج حدودنا.
بينما أسس روزفلت أكثر الجيوش العسكرية التي شاهدها العالم قوة، منحتنا الحريات الأربعة* التي أعلن عنها تصميم وعزم في نضالنا ضد الفاشية. ودعم الرئيس ترومان بنية جريئة جديدة ليتعامل مع التهديد الروسي فكان دمج القوات العسكرية مع مشروع مارشال** والمساهمة في تأمين السلام وتوفير الرفاهية للشعوب حول العالم. أما كينيدي فقد قام بتحديث المبادئ العسكرية وتقوية قواتنا التقليدية القديمة وتأسيس فيالق السلام وحلف التقدم في نفس وقت انهيار الكولونيالية وإنجاز الاتحاد السوفيتي لتكافؤ نووي نافذ المفعول. فقد طوعوا نقاط قوتنا ليظهروا للشعوب في كل أنحاء العالم الولايات المتحدة الأمريكية في أقوى حالاتها.
واليوم تم دعوتنا مرة أخرى لدعم القيادة المثالية. فتهديدات هذا القرن تعتبر على اقل تقدير بالغة الخطورة ومعقدة أكثر من مثيلتها التي واجهناها في الماضي والمنبثقة من الأسلحة المدمرة على أوسع نطاق ومن الإرهاب العالمي الذي يتجاوب مع العزلة أو ينظر للظلم بعدمية قاتلة. الآتية من الدول المارقة المتحالفة مع الإرهاب ومن القوى الصاعدة التي تتحدى كلا من الولايات المتحدة الأمريكية والقوام الدولي للديمقراطية الليبرالية ومن الدول الفقيرة الضعيفة التي لا تستطيع السيطرة على أراضيها أو النهوض بشعبها، ومن الاحتباس الحراري الذي سيكون سببا في الكثير من الأمراض والمزيد من الكوارث الطبيعية المدمرة والصراعات المميتة.
إدراك كم ومدى تعقيد هذه التهديدات ليس وسيلة للاستسلام للتشاؤمية ولكنها دعوة للعودة إلى العمل. فهذه التهديدات تتطلب قيادة برؤية جديدة في القرن الواحد والعشرين، رؤية مستمدة من الماضي ولكن ليس مقيدة بالأفكار القديمة البالية. فإدارة بوش تعاملت مع أحداث 11/9 الغير اعتيادية بطرق اعتيادية قديمة مستمدة من الماضي، رؤية المشاكل كحالة مسوولة وتعتمد على الحلول العسكرية بشكل أساسي. فقد كانت رؤية مضللة مفجعة قادتنا إلى حربنا في العراق والتي ما كان ينبغي أن يسمح بها وما كان ينبغي أن تنشب. ففي أعقاب حرب العراق وسجن أبو غريب فقد العالم ثقته في غايتنا ومبادئنا.
بعد فقد آلاف من الأرواح وصرف البلايين من الدولارات ربما فكر العديد من الأمريكيين في أن نتجه إلى الداخل وننطوي على أنفسنا ونتخلى عن تولي شئون العالم، ولكن هذا خطأ كبير لا يجب أن نقترفه. فالولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنها مواجهة تحديات هذا القرن وهي بمعزل عن العالم وكذلك لن يستطع العالم أن يفعل بدونها. فنحن لا يمكننا أن ننسحب من العالم ولا يمكننا في نفس الوقت أن نسيطر عليه ونخضعه لنا. ولكن يمكننا أن نقوده بالقول والفعل.
تلك القيادة تتطلب منا أن نسترد البصيرة الأساسية لروزفلت وترومان كينيدي، قيادة صادقة أكثر من أي وقت مضى: فأمن ورفاهية كل أمريكي تعتمد على أمن ورفاهية هؤلاء الذين يعيشون وراء حدودنا. فمهمة الولايات المتحدة هي وضع أسس القيادة العالمية بادراك أن العالم يشترك في نفس الأمن ونفس الإنسانية.
فاللحظة الأمريكية لم تمض بعد، ولكن لابد من إعادة اغتنامها. ليس معنى إننا نرى القوة الأمريكية في محطتها النهائية هو أن نتجاهل الحلم الأمريكي العظيم وتأثيره التاريخي في العالم. إذا تم انتخابي لمنصب الرياسة سأبدأ في تجديد هذا الحلم وإعادة ذلك التأثير في نفس يوم تولي مهام منصبي.

تجاوز مرحلة حرب العراق
لتجديد القيادة الأمريكية في العالم، لابد في المقام الأول أن ننهي الحرب على العراق نهاية على قدر من المسئولية ونعيد تركيز جهودنا على الشرق الأوسط الكبير. فالعراق تعتبر تحول عن الحرب ضد الإرهاب الذي هاجمنا في 11/9 ومواصلة غير كفؤ للحرب بواسطة قواد مدنيين أمريكيين يضاعفوا الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي هو اختيار شن الحرب منذ البداية. لقد خسرنا في هذه الحرب حتى الآن أكثر من 3300 أمريكي ويوجد الآلاف الذين يعانون من الجروح الجسدية والمعنوية.
قام المجندون والمجندات الأمريكيات بأداء واجبهم بشكل مثير للإعجاب بينما لم يكن هناك حدود للتضحية. ولكن حان الوقت لقوادنا المدنيين ليعترفوا بالحقيقة المؤلمة: نحن لا يمكننا أن نفرض الحلول العسكرية على الحرب الأهلية بين السنة والشيعة. الحل الامثل لننسحب من العراق ونتركها مكان أفضل هو أن نضغط على إطراف هذه الحرب ليجدوا حل سياسي دائم. والوسيلة المثلى لتنفيذ هذا الضغط هي أن نبدأ في سحب قواتنا تدريجيا بهدف سحب كل فرق القتال من العراق بحلول 31 مارس 2008 وهو تاريخ محدد ليناسب الهدف الذي حددته مجموعة دراسة العراق. هذا الانسحاب قد يكون توقف مؤقت إذا لم تحقق الحكومة العراقية المعايير الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تعهدت بها. وفي النهاية لابد أن ندرك أن الزعماء العراقيين فقط هم من يستطيعوا تحقيق السلام والاستقرار لبلادهم.
وفي ذات الوقت علينا أن نطلق مبادرة إقليمية عالمية سياسية شاملة للمساعدة في التوسط لإنهاء الحرب الأهلية في العراق ومنع انتشارها والحد من معاناة الشعب العراقي. ولنحقق المصداقية في هذا الجهد يجب علينا أن نوضح إننا لا نسعى لإقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق. ولكن لابد أن نترك خلفنا فقط أدنى قوة عسكرية صغيرة وواسعة المدى في المنطقة لحماية الرعايا والمنشآت الأمريكية والاستمرار في تدريب قوات الأمن العراقية واستئصال جذور القاعدة.
جعل الشرك العراقي المواجهة والعمل على إيجاد حلول للعديد من المشاكل الأخرى في المنطقة أصعب بشكل لا يمكن قياسه، كما إنها أنتجت العديد من هذه المشاكل الخطيرة إلى حد كبير. التغيير الفعال في العراق سيتيح لنا تركيز جهودنا على حل الصراع المتفاقم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تلك المهمة التي أهملتها إدارة بوش لسنوات عدة.
فلأكثر من ثلاث عقود تطلع الإسرائيليين والفلسطينيين والحكام العرب وباقي العالم إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتتزعم الجهود المبذولة لتنشئ الطريق الذي يقود لسلام دائم. ولكن يبدو أن كلهم يتطلعوا في السنوات الحالية إلى ما بدا دون جدوى. لابد أن تكون نقطة انطلاقنا التزام واضح وقوي بأمن إسرائيل أقوى حليف لنا في الشرق الأوسط والدولة الوحيدة التي تطبق الديمقراطية فيه. فهذا التعهد له أهمية كبرى في كفاحنا ضد تزايد التهديدات التي تحيط بالمنطقة، قوة إيران وتشوش العراق وانبعاث تنظيم القاعدة من جديد وصعود حماس وحزب الله على الساحة. الآن أكثر من أي وقت مضى يجب علينا أن نكافح من اجل ضمان استقرار الصراع الدائر بين دولتين يعيشون بجانب بعضهما ليتحقق الأمن والسلام. ولنفعل ذلك علينا أن نعزز هوية الإسرائيليين وان نقوي هؤلاء الشركاء الذين تعهدوا بصدق لتحقيق السلام بينما نقوم بعزل الآخرين الذين يسعون للصراع وعدم الاستقرار. تحمل القيادة الأمريكية كل هذا من اجل السلام سيتطلب جهود صبورة ووعد شخصي من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وهذا هو ما سأفعله.
في كل مكان من الشرق الأوسط علينا أن نعد أنفسنا عسكريا لننعش ونقوي الدبلوماسية الأمريكية. الدبلوماسية المعقدة المدعمة بمراكز القوة الأمريكية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، قد تنجح حتى عندما نتعامل مع أعداء محددين منذ زمن مثل إيران وسوريا. فقد باءت بالفشل سياستنا في إصدار التهديدات والاعتماد على الوسطاء للحد من البرنامج النووي العراقي ورعاية الإرهاب والحرب الأهلية. وأيضا علينا ألا نبالغ في استخدام القوة العسكرية، وألا نتمهل في التحدث بشكل مباشر مع إيران. ولابد أن نرفع ثمن إتمام إيران لبرنامجها النووي بفرض عقوبات اقتصادية شديدة عليها وحث شركاؤها التجاريين بالضغط عليها بشكل متزايد. ولابد أن يعمل العالم على إيقاف برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني ومنعها من احتياز أسلحة نووية. فمن الخطير جدا أن تملك دولة دينية راديكالية أسلحة نووية. وفي نفس الوقت ينبغي أن نظهر لإيران وبالاحرى الشعب الإيراني ماذا سنجني من وراء هذه التغيرات الجوهرية: مشاركة اقتصادية، ضمانات أمنية وعلاقات دبلوماسية. اتحاد السياسة مع الضغط في امكانه أن يعيد توجيه سوريا بعيدا عن النظام التعصبي لوضع أكثر اعتدالا. كما يمكنه، بالتالي، المساعدة في استقرار العراق وعزل إيران وتحرير لبنان من القبضة السورية وتأمين إسرائيل بشكل أفضل.

إحياء الجيش
لتجديد القيادة الأمريكية في العالم، علينا العمل توا لإحياء جيش الولايات المتحدة الأمريكية. فالجيش القوي هو، أكثر من أي شئ، ضروري لمؤازرة السلام. ولكن مع الأسف، الجيش والقوات البحرية الأمريكية، وفقا لزعمائنا العسكريين، يواجهون أزمة. فالبنتاجون لا يستطيع أن يضمن الاستعداد الكامل لوحدة عسكرية واحدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية بحيث تستطيع أن تواجه أي أزمة جديدة أو حالات الطوارئ فيما بعد العراق: 88 % من قوات الحرس الوطني غير مؤهلين للانتشار خارج البلاد.
علينا أن نستغل هذه اللحظات لإعادة بناء الجيش الأمريكي وتدريبه على إتمام المهمات المفوضة إليه في المستقبل. وعلينا أن نستبقى طاقة الإنتاج القصوى للتغلب على أي تهديد قديم يهدد مصالحنا الحيوية في سرعة. ولابد أن نكون مؤهلين بشكل جيد لتدريب القوات البرية المتواجدة في الحرب ليواجهوا الخصوم بعمل حملات عسكرية مؤهلة بدرجة عالية وبشكل لا مثيل له على المستوى العالمي.
علينا أن نزيد قواتنا البرية بإضافة 65.000 جندي للجيش و27.000 للقوات البحرية. دعم هذه القوات هو أكثر من مجرد تنظيمها. ولابد أن نجند الأفضل وان نستثمر قدرتهم على النجاح. وهذا يعني أن ندعم مجندينا ومجنداتنا بمعدات من الطراز الأول وبالقوات والعربات المدرعة ويجب تحفيزهم وتدريبهم بلغات أجنبية وإعطائهم المهارات الأساسية الأخرى. كل برنامج الدفاع الرئيسي يجب درسه في ضوء الاحتياجات الحالية، ثغرات ميدان القتال، وسيناريوهات التهديد المستقبلي المحتمل حدوثها. سيكون على الجيش الأمريكي أن يعيد بناء بعض قدراته وتحسين البعض الآخر. في نفس الوقت نحن بحاجة إلى التعهد بالتمويل الكافي لتمكين الحرس الوطني من استرداد حالة التأهب القصوى.
تحسين الجيش الأمريكي لن يكون كافيا، بصفتي قائدا سأستخدم قواتنا المسلحة بشكل حكيم. عندما نرسل رجالنا ونسائنا في طريق خطر سأوضح المهمة بوضوح وسأبحث عن مشورة القادة العسكريين، سأقييم دائرة الاستخبارات بموضوعية، وسأكون على يقين من أن جنودنا لديهم الموارد والدعم الذي يحتاجونه. لن أتردد في استخدام القوة، من جانب واحد إذا اقتضى الأمر،  لحماية الشعب الأمريكي أو مصالحنا الحيوية متى تمت مهاجمتنا أو تهديدنا.
كما يجب اعتبار استخدام القوة العسكرية في ظروف ابعد من الدفاع عن النفس لتوفير الأمن العام هو أساس الأمن العالمي، كالوقوف بجانب الأصدقاء، المشاركة في تحقيق الاستقرار وعمليات إعادة الاعمار، ومواجهة الدمار الفظيع. ولكن عندما نستخدم القوة في موقف غير الدفاع عن النفس، فلابد أن نسخر كل جهدنا لنجمع الدعم ومشاركة الآخرين كما فعل الرئيس جورج بوش الأب عندما حشدنا قواتنا لطرد صدام حسين من الكويت عام 1991. النتائج المترتبة على نسيان هذا الدرس في سياق الصراع الحالي في العراق كانت خطيرة.

وقف انتشار الأسلحة النووية
لتجديد القيادة الأمريكية في العالم، ينبغي مواجهة أكثر تهديد متطلب عمل عاجلا يهدد الأمن الأمريكي والعالمي ألا وهو انتشار الأسلحة النووية، ماديا وتكنولوجيا، والخطر الذي سنشعر به إذا سقط هذا الجهاز النووي في أيد إرهابية. فانفجار واحد فقط من هذه الأجهزة النووية في امكانه إحداث كارثة، تقزم دمار 11/9 وتهز كل ركن من أركان العالم.
كما انذر جورج شلتز ووليام بيري وهنري كاسنجر وسام نان بان مقاييسنا الحالية غير كافية لمواجهة الخطر النووي. كما أن نظام الحد من انتشار الأسلحة النووية الآن يعتبر تحدي، والبرامج النووية المدنية الجديدة في امكانها نشر طرق صنع الأسلحة النووية وقد جعلت القاعدة هذا هدفا لها لجلب هيروشيما جديدة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فالإرهابيين لن يحتاجوا إلى تصنيع أسلحة نووية من البداية، فقط يحتاجون لسرق أو شراء السلاح أو الأدوات المصنوع منها لتركيب واحد. الآن يوجد يورانيوم مخصب بدرجة عالية، بعضا منه ضعيف الضمان، في المنشآت النووية المدنية في أكثر من 40 دولة حول العالم. ففي الاتحاد السوفيتي السابق يوجد تقريبا 15.000- 16.000 سلاح نووي ومخزون احتياطي من اليورانيوم والبلوتونيوم يكفي لعمل 40.00 سلاح آخر كلهم منتشرين في 11 منطقة زمنية. وقد تم بالفعل ضبط بعض الناس وهم يحاولون تهريب المواد النووية لبيعها في السوق السوداء.
كرئيس للولايات المتحدة، سأعمل مع الأمم الأخرى لضمان وتدمير ووقف انتشار هذه الأسلحة النووية لتقليل الأخطار النووية الهائلة على امتنا وعلى العالم. لابد أن تقود أمريكا الجهود العالمية لتأمين الأسلحة النووية والمواد المكونة منها في المواقع المعرضة للهجوم في غضون أربع سنوات وهذه هي أكثر الطرق الفعالة لمنع الإرهابيين من امتلاك قنبلة نووية.
وهذا سيتطلب تعاون روسي فعال. مع إننا يجب ألا نتحفظ من دفع المزيد من الديمقراطية والمسئولية داخل روسيا فعلينا أن نعمل معها في إطار المصالح المشتركة، وفوق كل هذا، التأكد من أن الأسلحة النووية والمواد المكونة منها في أمان. علينا أيضا أن نعمل مع روسيا لتحديث وتقليص أوضاع حربنا الباردة النووية الخطيرة التي عفا عليها الزمن وتقليل دور الأسلحة النووية. وينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية ألا تندفع في إنتاج جيل جديد من الرؤوس النووية. ويجب أن نأخذ مميزات التطورات التكنولوجية الحديثة لصنع توافق بين آراء الحزبين الجمهوري والديمقراطي للتصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. يمكن عمل كل هذا بينما نحافظ على قوة الردع النووي. في وسع هذه الخطوات أن تقوي أمننا بشكل جوهري.
وبينما سنقوم بإغلاق الاحتياطي النووي الموجود، سأتفاوض لتطبيق الحظر العالمي المؤكد على إنتاج المواد المصنع منها الأسلحة النووية. نحن أيضا لابد أن نتوقف عن نشر تكنولوجيا الأسلحة النووية والتأكد من أن الدول لن تستطيع بناء أو حتى مجرد التفكير في بناء برنامج نووي تحت رعاية تطوير الطاقة النووية السلمية. وهذا هو السبب الذي سيجعل ادراتي تقوم فورا بدفع 50 مليون دولار لانطلاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يسيطر عليها بنك الوقود النووي والعمل على تجديد معاهدة عدم الانتشار النووي. ولابد أن ننفذ بشكل كامل القانون الذي أصدرناه أنا والسيناتور الجمهوري ريتشارد لوجار لمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤنا لاكتشاف ومنع تهريب أسلحة الدمار الشامل حول العالم.
وأخيرا، لابد أن ننشئ اتحاد عالمي قوي لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية والتخلص من برنامج كوريا الشمالية للأسلحة النووية. فمن الممكن أن تطلق كلا من إيران وكوريا الشمالية سباقات تسلح إقليمية، صانعة بؤر نووية خطرة في الشرق الأوسط وشرق آسيا. ولمواجهة هذه التهديدات لن أقوم بسحب الخيار العسكري من على الطاولة، فأول تعامل لنا لابد أن يكون دبلوماسية  مساندة ومباشرة وقاسية، هذا النوع من التعامل الذي لم تكن ادراة بوش قادرة أو راغبة في استخدامه.


مكافحة الإرهاب العالمي   
لتجديد القيادة الأمريكية في العالم، لابد أن نشكل جبهة عالمية أكثر فاعلية لمواجهة الإرهاب الذي هاجم حدودنا بشكل غير مسبوق في 11 سبتمبر 2001. فمن بالي إلى لندن ومن بغداد إلى الجزائر ومن مومباي إلى مومباسا إلى مدريد، الإرهاب الذي يرفض هذا العصر ويعارض أمريكا ويشوه الإسلام قتل وشوه عشرات الآلاف من الناس فقط في هذا العقد. ولان هذا العدو يقوم بسلسلة من العمليات الإرهابية على نطاق عالمي يجب مواجهته عالميا.
كما ينبغي أن نعيد أنظارنا إلى أفغانستان وباكستان، الجبهة المركزية في حربنا ضد القاعدة. لذلك نحن نواجه الإرهاب حيث نشأت جذوره بعمق. النجاح في أفغانستان مازال ممكنا ولكن هذا فقط إذا تحركنا في سرعة وحكمة وحزم. كما ينبغي مواصلة استراتيجية متكاملة من شأنها تعزيز قواتنا في أفغانستان والعمل على إزالة القيود المفروضة من قبل بعض الحلفاء في حلف شمال الأطلنطي على قواتها. ولابد لاستراتيجيتنا أن تتضمن دبلوماسية مدعمة لعزل طالبان وبرامج متطورة أكثر فعالية تهدف إلى تقديم المعونة إلى المناطق المتضررة من اعتداءاتها.
سأنضم إلى حلفاؤنا في الإلحاح، وليس مجرد طلب، لتقوم باكستان بالقضاء على طالبان ومطاردة أسامة بن لادن ومعاونيه وإنهاء علاقته مع كل المجموعات الإرهابية. كما إني في نفس الوقت سأشجع الحوار بين باكستان والهند ليعملوا على حل نزاعهم حول مقاطعة كاشمير والحوار بين أفغانستان وباكستان  ليتباحثوا حول اختلافاتهم التاريخية وتوضيح المنطقة الحدودية لقبائل البشتون بالتفصيل. ومن الجدير بالذكر أن إذا استطاعت باكستان النظر في اتجاه الشرق في مزيد من الثقة، ستكون اقل ميلا إلى الاعتقاد أن مصالحها ستتم على أكمل وجه من خلال التعاون مع طالبان.
وعلى الرغم من اتخاذ إجراءات صارمة في جنوب ووسط آسيا إلا إنها تمثل فقط نقطة البداية، فجهودنا لابد أن تكون على نطاق أوسع. ويجب أن لا يكون هناك ملاذ آمن لأولئك الذين يتآمروا على قتل الأمريكان. ولهزم القاعدة سأؤسس جيش القرن الواحد والعشرين وسأقيم علاقات بنفس قوة اتحاد مناهضي الشيوعية الذي انتصر في الحرب الباردة لنكون في وضع استعداد للهجوم في كل مكان من جيبوتي إلى قندهار.
هنا في الوطن، علينا أن نعزز أمننا القومي وحماية  البنية التحتية الأساسية التي تتوقف عليها بنية كل دول العالم. يمكننا أن نبدأ بإنفاق الأموال على الأمن الداخلي على أساس الخطر الذي يمكنه مواجهتنا. وهذا يعني استثمار المزيد من الموارد لصيانة وسائل النقل، وسد الثغرات في امن طيراننا بفحص كل البضائع على طائرات الركاب وفحص جميع الركاب متضمنا قائمة المراقبة، وتطوير امن الموانئ بالتأكد من أن البضائع يتم فحصها بالإشعاع.
ولننجح، لابد أن يكون امن وطننا وإجراءات مكافحة الإرهاب مرتبطة باستخبارات تتعامل بفاعلية مع التهديدات التي نواجهها. فنحن نعتمد اليوم على نفس المؤسسات والممارسات التي كانت قائمة قبل أحداث 11 سبتمبر. نحن بحاجة إلى إعادة النظر في إصلاح الاستخبارات، وتجاوز إعادة ترتيب صناديق الهيكل التنظيمي. للاحتفاظ بمعدل التقدم أمام أعداء لديهم قدرة عالية على التكيف والتطور، ونحن بحاجة إلى التكنولوجيات والممارسات التي تمكنا من تبادل وجمع المعلومات بفعالية داخل وعبر وكالاتنا الاستخبارية. علينا أن نستثمر المزيد في الاستخبارات البشرية ونشر عمال ودبلوماسيين إضافيين مدربين ذوي معرفة متخصصة بالثقافات واللغات المحلية. كما ينبغي إضفاء طابع مؤسسي على وضع التقييمات التنافسية للتهديدات الحرجة وتقوية منهجياتنا في التحليل.
في النهاية، نحن في حاجة إلى استراتيجية متكاملة لهزيمة الإرهاب العالمي تعتمد على جميع مراكز القوة الأمريكية وليس فقط القوة العسكرية. وبوصفي قائد عسكري أمريكي رفيع المستوى أرى أن عندما يتوفر للناس الكرامة والفرصة، تكون فرصة تقليل الراديكالية مرحب بها بشكل كبير أن لم يكن كلي، ولهذا السبب نحن في حاجة إلى التعاون مع حلفاؤنا لتعزيز ودعم الدول الضعيفة ومساندتهم في إعادة بناء ما سقط منهم.
في العالم الإسلامي وما وراءه، تتطلب مكافحة أنبياء الخوف الداعين للإرهاب ما هو أكثر من المحاضرات حول الديمقراطية. نحن في حاجة إلى زيادة معلوماتنا عن الظروف والمعتقدات التي تدعم أساس الراديكالية. فهناك جدال حامي يدور داخل الإسلام، البعض يراه مستقبل من السلام والتسامح والتنمية والمزيد من الديمقراطية. والبعض الآخر يعتنق الصرامة والتعصب العنيف ضد الحرية الشخصية والعالم ككل.
لتمكين القوات من الوسطية، على أمريكا أن تقوم بكل جهد لتوفير الفرص، مثل مداخل إلى التعليم والى الرعاية الصحية والصناعة والاستثمار، وتوفير نوع من الدعم المستمر للإصلاح السياسي والمجتمع المدني وهذا هو ما مكنا من الانتصار في الحرب الباردة. فإيماننا مرتكز على الأمل بينما إيمان الراديكاليين مرتكز على الخوف. وهذا هو ما يجعلنا نستطيع وسنستطيع أن نكسب هذا الصراع.

إعادة بناء شراكتنا
لتجديد القيادة الأمريكية في العالم، اعتزم  أن أعيد بناء التحالفات والشراكة والمؤسسات اللازمة لمواجهة التهديدات المشتركة وتحسين أمننا المشترك. هناك حاجة إلى إصلاح هذه التحالفات والمؤسسات وهذا لن يأتي بفرض القوة على الدول الأخرى لنصدق على تغييرات نحن ندبر لها في الظلام. ولكن ستأتي عندما نقوم بإقناع الحكومات والشعوب الأخرى إنها لها أيضا مصلحة في إقامة شراكات فعالة.
غالبا ما نرسل إشارة معاكسة لشركائنا الدوليين. ففي حالة أوروبا، رفضنا التحفظات الأوروبية حول حكمة وضرورة شن الحرب على العراق. في آسيا، قمنا بالتقليل من شأن الجهود المبذولة من قبل كوريا الجنوبية لتحسين العلاقات مع الشمال. في أمريكا اللاتينية، من المكسيك إلى الأرجنتين، فشلنا في مواجهة المخاوف بشأن الهجرة والعدالة والنمو الاقتصادي. في أفريقيا، سمحنا للابادة الجماعية أن تدوم لأكثر من أربعة سنوات في دارفور وتقريبا لم نفعل ما يكفي للرد على دعوة الاتحاد الأفريقي بتقديم مزيد من الدعم لوقف القتل. لذلك سأعيد علاقتنا مع حلفاؤنا في أوروبا وآسيا وسأعزز شراكتنا مع أمريكا وأفريقيا.
تتطلب تحالفتنا إعادة النظر في مدى تعاوننا وإذا كانوا لا يزالوا ينشدوا أن تظل هذه التحالفات فعالة وذات صلة. فحلف شمال الأطلنطي قطع أشواطا هائلة على مدى الخمسة عشر عاما الأخيرة، محولا نفسه من تأمين بنية الحرب الباردة إلى شريك من اجل السلام. ولكن اليوم، اتضحت تحدياته في أفغانستان، كما قال السيناتور لوجار "تناقض متزايد بين مهمات حلف شمال الأطلنطي الموسعة وبين قدراته المتأخرة". لسد هذه الثغرة، سوف أحث الحلف للمساهمة بقوات أكثر لتوفير الأمن الجماعي وزيادة الاستثمار لإعادة البناء وتطوير القدرات.
وكما سنعزز حلف شمال الأطلنطي ينبغي أن ننشئ تحالفات وشراكات جديدة في مناطق حيوية أخرى. مثل الصين الصاعدة واليابان وكوريا الجنوبية الذين فرضوا أنفسهم على الساحة العالمية. وسأقوم بتشكيل إطار أكثر فعالية في آسيا يتجاوز الاتفاقيات الثنائية ومؤتمرات القمة العرضية والترتيبات الخاصة مثل المحادثات السداسية حول كوريا الشمالية. فنحن بحاجة إلى بنية تحتية شاملة مع دول في شرق آسيا التي يمكن أن تشجع الاستقرار والازدهار وتساعد في مواجهة التهديدات الدولية، من الخلايا الإرهابية في الفلبين إلى أنفلونزا الطيور في اندونيسيا. كما سأقوم بتشجيع الصين بلعب دور مسئول باعتبارها قوة كبرى للمساعدة في تزعم مواجهة مشاكل القرن الواحد والعشرين المشتركة. وبالطبع سوف نتنافس مع الصين في بعض المجالات ونتعاون معها في أخرى. التحدي الجوهري هو أن نبني علاقات توسع من نطاق التعاون بينما نقوي قدرتنا على المنافسة.
بالإضافة إلى حاجتنا إلى تعاون فعال فيما يخص القضايا العالمية الملحة بين جميع القوى الرئيسية، متمضنا ما ظهر توا للعيان مثل البرازيل والهند ونيجيريا وجنوب أفريقيا. نحن في حاجة إلى دعمهم ماليا ليحافظوا على النظام العالمي. وللوصول إلى هذه الغاية، يتعين على الأمم المتحدة أن تقوم بإصلاح واسع المدى. فلا تزال الممارسات الإدارية في الأمانة العامة للأمم المتحدة واهية. فهناك إفراط في عمليات حفظ السلام، مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الجديد اصدر ثمانية قرارات تدين إسرائيل ولكنه لم يصدر حتى قرارا واحدا ليدين الابادة الجماعية في دارفور أو انتهاك حقوق الإنسان في زمبابوي. أيا من كل تلك المشكلات لن يتم حلها إلا إذا كرست الولايات المتحدة الأمريكية نفسها لهذه المنظمة ولمهامها.
تعزيز المؤسسات وتنشيط التحالفات والشراكات له أهمية حاسمة إذا أردنا تخطي هذه الفترة من تاريخنا والانتصار عليها. وقد صنع الإنسان تهديد آخر فوق هذا الكوكب، ألا وهو التغيير المناخي. بدون هذه التغييرات المفاجئة فارتفاع منسوب البحر سيغرق المناطق الساحلية حول العالم، وبما في ذلك جزء كبير من الساحل الشرقي. ارتفاع درجة الحرارة وانخفاض هطول الأمطار سيقلل من المحاصيل وسيزيد من النزاعات والمجاعات والأمراض والفقر. وبحلول عام 2050 من الممكن أن تؤدي المجاعة إلى تشريد أكثر من 250 مليون شخص حول العالم وهذا يعني زيادة عدم الاستقرار في بعض أكثر أجزاء العالم تقلبا.
بوصفها اكبر منتج في العالم للغازات الدفيئة، فالولايات المتحدة الأمريكية مستعدة للقيادة بمسئولية. بينما يعمل الكثير من شركاؤنا الصناعيين بكد ليقللوا من انبعاث هذه الغازات، نزيدها نحن بمعدل ثابت بإصدار أكثر من 10 % في العقد الواحد. كرئيس للولايات المتحدة، اعتزم أن أسن قانون لنظام الحد الانبعاثي والمتاجرة بشأنه أن يخفض بشكل كبير من انبعاثات الكربون. كما سأعمل لتحريرنا أخيرا من الاعتماد على البترول الأجنبي باستخدام طاقة أكثر كفاءة في سياراتنا ومصانعنا ومنازلنا بالاعتماد أكثر على مصادر الطاقة المتجددة وتسخير امكانات الوقود الحيوي.
تأمين احتياجاتنا بشكل مرتب ما هو إلا خطوة أولى. وقريبا ستحل الصين محل الولايات المتحدة الأمريكية كأكثر دول العالم إنتاجا للغازات الدفيئة.
 تطوير الطاقة النظيفة لابد أن يكون المحور الرئيسي في علاقتنا مع الدول الكبرى في أوروبا واسيا. سأستثمر تكنولوجيات فعالة ونظيفة في الوطن بينما نستخدم تنشيط سياستنا وتصديرنا المساعد للدول النامية في تجاوز مرحلة تطوير الاستخدام الكثيف للكربون، كما إننا في حاجة إلى مواجهة عالمية للتغيير المناخي تتضمن روابط ملزمة وقابلة للتنفيذ لتقليل الانبعاث الحراري وخاصة بالنسبة للدول الأكثر تلويثا للبيئة: الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند والاتحاد الأوروبي وروسيا، انه تحدي هائل. لكن ارتفاعها له فوائد كثيرة للولايات المتحدة، فبحلول عام 2050 من الممكن أن يخلق الطلب العالمي على الطاقة منخفضة الكربون سوق سنوي بقيمة 500 مليار دولار، وبتلبية هذا المطلب من شأنه أن يفتح آفاق جديدة للعمال وأصحاب المشاريع الأمريكية.

بناء مجتمعات عادلة وآمنة وديمقراطية
وفي النهاية لتجديد القيادة الأمريكية، سأقوي أمننا المشترك لتحقيق إنسانيتنا المشتركة. فالتزامنا العالمي لا يمكن أن يعرف بما نحن ضده بل ينبغي أن يعرف بإحساس واضح بمن ندعمهم. فنحن لدينا مصلحة كبيرة في ضمان أن من يحيوا في خوف وفاقة اليوم في امكانهم أن يحيوا بكرامة وتتوفر لهم الفرص غدا.
فالشعوب حول العالم سمعوا في الآونة الأخيرة عن حرية التطور، ومن المفجع أن الكثير ربطوا هذا ذهنيا مع الحرب والتعذيب وفرض تغيير النظام بالقوة. ولكن لإنشاء عالم أفضل حر لابد أولا أن نتصرف بطريقة تعكس لياقة وتطلعات الشعب الأمريكي. وهذا يعني وضع حد لممارسات إبعاد السجناء في عتمة الليل ليتعرضوا لعمليات التعذيب في دول نائية واعتقال الآلاف بدون تهم أو محاكمة والإبقاء على شبكة من السجون السرية لسجن الناس بعيدا عن متناول القانون.
ينبغي على أمريكا أن تلتزم بتعزيز دعائم مجتمع عادل. يمكننا أن نساعد في بناء مؤسسات مسئولة تقدم الخدمات والفرص: هيئات تشريعات قوية، هيئات قضائية مستقلة، قوات شرطة نزيهة، حرية المطبوعات وحيوية المجتمعات المدنية. ففي الدول المدمرة بسبب الفقر والصراع يتطلع المدنيين للتحرر من الحاجة والعوز. ونظرا لان المجتمعات الفقيرة والدول الضعيفة إلى ابعد الحدود متوافر فيها ارض خصبة مثالية للأمراض والإرهاب والصراع فان الولايات المتحدة الأمريكية لديها امن قوي مباشر يهتم بشكل كبير بالحد من الفقر العالمي والمشاركة مع حلفاؤنا في تقاسم الكثير من ثرواتنا لمساعدة هؤلاء من هم في أمس الحاجة إليها. نحن في حاجة إلى المشاركة في بناء دول قادرة ديمقراطية لديها القدرة على بناء مجتمعات صحية ومثقفة، أسواق متطورة وثورة منتجة. دول في امكانها أيضا أن تمتلك قدر اكبر من القدرات التنظيمية لمحاربة الإرهاب ووقف انتشار الأسلحة المميتة وبناء بنية تحتية صحية سليمة لمنع وهزيمة ومعالجة الأمراض الفتاكة مثل الإيدز والملاريا وأنفلونزا الطيور.
كرئيس للولايات المتحدة، سوف أضاعف الاستثمار السنوي في مواجهة هذه التحديات إلى 50 مليار دولار بحلول 2012 وسأتأكد من أن هذه الموارد الجديدة موجهة نحو أهداف مستحقة العناء المبذول في سبيلها. ففي العشرين سنة الأخيرة، لم يقدم صندوق الولايات المتحدة الأمريكية للمساعدات الخارجية شيئا أكثر من مواكبة التضخم. من مصلحة أمننا القومي أن نقدم الأفضل ولكن إذا كانت أمريكا ستقدم العون للآخرين في بناء مجتمعات أكثر عدلا وأمنا، فاتفاقياتنا التجارية وتخفيف الديون والمساعدات الخارجية لا يمكن أن تكون بدون مقابل بل سأربط دعمنا بدعوة ملحة للإصلاح لمكافحة الفساد الذي تغلغل وتعفن في المجتمعات والحكومات من الداخل. لن افعل هذا بروح الراعي ولكني سأفعله بروح الشريك ولكن مع الوضع في الاعتبار أن لكل شريك عيوبه الخاصة.
برامج الإيدز العالمية المتطورة السريعة الأمريكية أثبتت أن زيادة المساعدات الأجنبية في وسعها أن تحدث اختلافا حقيقيا. وكجزء من هذا التمويل الجديد، سأدعم صندوق التعليم العالمي بمبلغ 2 مليار دولار الذي سيجعل العالم يتعاون للقضاء على عجز الميزانية في التعليم العالمي، تقريبا مثل لجنة 9/11 المقترحة. لا يمكننا أن نأمل بتشكيل عالم حيث تواجد الفرص يفوق الخطر إلا إذا قمنا بالتأكد من أن كل طفل في كل مكان تعلم ليبني لا ليهدم.
هناك مبادئ أخلاقية وأمنية مقنعة لتجديد القيادة الأمريكية، وهي الاعتراف بقيمة الناس وبالمساواة الفطرية بينهم. كما قال الرئيس كينيدي في خطابه الافتتاحي عام 1961 "لهؤلاء الناس في الأكواخ والقرى الذين يشكلون نصف سكان القرى الأرضية ويكافحوا من اجل الخروج من تحت وطاءة الدمار والبؤس، نتعهد بتقديم أفضل جهودنا لمساعدتهم في أن يساعدوا أنفسهم مهما تتطلب الأمر من وقت. هذا ليس لان الشيوعيين من الممكن أن يفعلوا ذلك وليس لاننا نستهدف أصواتهم ولكن لأنه الحق. فالمجتمع الحر إذا لم يستطع أن يساعد الكثيرين الذين يعانون من الفقر فلن يستطع حماية القليلين الذين يتمتعون بالثروات". سأظهر للعالم أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال مخلصة لقيمها الموضوعة. وأننا نقود ليس فقط لتحقيق مصالحنا ولكن لتحقيق المصالح المشتركة.

استرداد الثقة في الولايات المتحدة
قال روزفلت في مواجهة هتلر أن "في وسع قوتنا أن تتجه نحو الخير المطلق وفي نفس الوقت في وسعها أن تكون ضد الشر الحالي، نحن الامريكيون لسنا بمدمرين، إننا بناة". وقد حان الوقت لرئيس في استطاعته توحيد الآراء هنا في هذا الوطن على نفس القدر من هذا الطموح.
أخيرا، لن تنجح أي سياسة أجنبية إلا إذا فهمها الشعب الأمريكي وشعر أن له مصلحة في نجاحها، إلا إذا كانوا واثقين في أن حكوماتهم تستطيع استشعار اهتماماتهم ومخاوفهم أيضا. لن نستطيع أن نزيد المساعدات الخارجية إذا فشلنا في توفير الأمن والفرص لشعبنا. ولا يمكننا عقد الاتفاقيات التجارية لمساعدة في تحفيز التنمية في الدول الفقيرة طالما نحن لا نقدم دعم مجدي لمساعدة الشعب الأمريكي المحمل بالأعباء اثر اختلالات الاقتصاد العالمي. ولا يمكننا أن نقلل من اعتمادنا على البترول الخارجي أو مواجهة الاحتباس الحراري إلا إذا كان الشعب الأمريكي مستعدا لان يبدع ويجدد ويحافظ على هذا. لا يمكننا أن ننتظر من الأمريكيين أن يدعموا وضع المجندين والمجندات في الحرب إذا لم نستطيع أن نبين إننا سنستخدم القوة بحكمة وعدل. ولكن إذا استطاع الرئيس القادم أن يسترد ثقة الشعب في أمريكا، لو أدركوا أن هو أو هي يتحرك في الطريق الصحيح وفقا لمصالحهم الأهم بحذر وحكمة وبقدر من التواضع. بعد كل هذا أستطيع أن أؤمن بان الشعب الأمريكي سيتطلع إلى رؤية أمريكا تتزعم العالم مرة أخرى.
أؤمن بأنهم سيقروا بان الوقت قد حان للجيل الجديد أن يحكي للجيل التالي عن قصة أمريكية عظيمة. إذا عملنا بجرأة وتبصر، سنكون قادرين على إخبار أحفادنا أن هذا هو الوقت الذي ساعدنا فيه الشرق الأوسط على تحقيق السلام، هذا هو الوقت الذي واجهنا فيه التغيير المناخي وقمنا بتأمين الأسلحة التي كان بمقدورها أن تدمر الجنس البشري، هذا هو الوقت الذي كافحنا فيه الإرهاب العالمي وجلبنا الفرص للأركان المنسية من العالم. وهذا هو الوقت الذي استطعنا فيه تجديد أمريكا لتقود أجيال من المسافرين المرهقين من جميع أنحاء العالم ليجدوا الفرصة والحرية والأمل على أبوابنا.
لم يمض وقتا طويلا منذ أن كان فلاحي فنزويلا واندونيسيا يرحبوا بالأطباء الأمريكيين في قراهم ويعلقوا الصور الفوتوغرافية للرئيس كينيدي على حوائط غرف معيشتهم. عندما كان الملايين، مثل أبي، ينتظروا كل يوم رسالة بريدية تمنحهم امتياز القدوم للولايات المتحدة الأمريكية للدراسة أو العمل أو الحياة أو القدوم فقط ليصبحوا أحرارا.
يمكننا أن نكون هذا الحلم مرة أخرى. هذا هو وقتنا لتجديد ثقة وإيمان شعبنا، وكل الشعوب، في الولايات المتحدة التي تعارك الشرور الحالية، وتعزز الخير المطلق وتقود العالم مرة أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحريات الأربعة: أعلنها روزفلت عام 1941 وتتمثل في حرية التعبير والعبادة والتحرر من الخوف والحاجة.
** مشروع مارشال: هو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 
الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان حرب الجيش الأمريكي عام 1947


ترجمة: أميمة صبحي

نُشر في مجلة وجهات نظر - 2009
From Foreign Affairs, July/August 2007