Tuesday, April 21, 2015

الأرض المنخفضة

جزء من رواية جومبا لاهيري الأخيرة "الأرض المنخفضة"

1
شرق نادي توللي، بعد تفرع طريق ديشبرن ساسمل لطريقين، هناك بالزاوية مسجد صغير. يؤدي المنعطف إلي مقاطعة هادئة، مكتظة بالأزقة الضيقة وبمنازل الطبقة المتوسطة البسيطة. يوما ما، تراكمت المياه مكونة مستنقعين مستطيلين متجاورين. تمتد خلفهما لعدة أفدنة أرض منخفضة. بعد الرياح الموسمية، ارتفع مستوي المياه بالمستنقعين، ولم يعد الجسر بينهما مرئيًا. كما امتلأت الأرض المنخفضة بمياه الأمطار، بعمق ثلاث أو أربع أقدام. بقيت المياه فترة طويلة حتي جفت. غطي ورد النهر الذي نما عشوائيا الأرض المنبسطة المغمورة بالمياه، وجعلت أوراقه السطح الخارجي يبدو متماسكا وصلبا. سطح أخضر في مقابل زرقة السماء. تقف الكهوف الفقيرة متراصة بمحاذاة المستنقعين. يجتازهما الفقراء ليجمعوا ما كان صالحا للطعام. في الخريف، وصلت طيور البلشون. اتسخ ريشها الأبيض من سخام المدينة، متربصة بهدوء في انتظار صيدها. في الطقس الرطب ل كلكتا، كان التبخير بطيئا. لكن في النهاية بخرت الشمس معظم المياه، كاشفة عن الأرض الرطبة مرة أخري. عبر سباشوأودين الأرض المنخفضة عدة مرات. إنها طريق مختصرة إلي الملعب بضواحي الحي، حيث يذهبان ليلعبا كرة القدم. يعبران حصائر ورد النهر الباقية بالمكان ليتجنبا التعثر في الوحل. يتنفسان الهواء الرطب. بعض الطيور تضع بيضها القادر علي تحمل الموسم الجاف. أما الآخرون فينجون بدفن أنفسهم في الطين، متظاهرين بالموت، في انتظار عودة الأمطار.


لم تطأ أقدامهما أبدا نادي توللي مثل معظم سكان المقاطعة الذين مروا بجانب البوابة الخشبية والجدران المبنية بالطوب مئات المرات. اعتاد والدهما مشاهدة سباقات الخيل حول ميدان السباق من خلف الجدران حتي منتصف الأربعينات. كان يشاهدها من الشارع واقفا بين المراهنين والمشاهدين غير القادرين علي دفع ثمن التذكرة، أو دخول النادي. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي ولد به سباش وأودين تقريبا، ارتفعت الجدران لذلك لم يعد العامة قادرون علي مشاهدة السباقات مرة أخري. كان جارهما بسم الله يعمل مساعد لاعب جولف بالنادي. كان مسلٌمًا بقي في توليجانش بعد تقسيم الهند. باعهما كرات الجولف الضائعة أو المتروكة في الملعب مقابل بيزات قليلة. بعضها به قطع يكشف عن الحشو المطاطي الوردي مثل جرح في الجلد. في البداية ضربا الكرة المدملة جيئة وذهابا بالعصيان. ثم باعهما بسم الله أيضا مضربًا ذا رأس معدني ملتويًا قليلا. أتلفه لاعب خاسر، ضربه بقوة في الشجرة.
علمهما بسم الله كيف ينحنيان للأمام، وأين يضعان أيديهما. فحفرا الحفر في الوحل، لتحديد أهداف لعبهما بحرية تامة، وحاولا إدخال الكرات بها. وبرغم أنهما كانا في حاجة لمضرب حديدي مختلف لضرب الكرات لمسافات أبعد، لكنهما استخدما نفس المضرب علي أي حال. لكن الجولف لم يكن مثل كرة القدم أو الكروكيه. ليس رياضة يستطيع الأخوان أن يرتجلاها بشكل يرضيهما. في طين الملعب، حفر بسم الله بأظافره خريطة لنادي توللي ثم محاها. أخبرهما أن بالقرب من المبني هناك حمام سباحة، اسطبلات، وملعب تنس. كذلك مطاعم، حيث يسكب الشاي من أباريق فضية، وحجرات بلياردو وألعاب الورق. الموسيقي تتصاعد من الفونجرافات. الجرسونات في سترات بيضاء يعدون عصائر تسمي السيدة الوردية وجن فيز. قامت مؤخرا إدارة النادي ببناء المزيد من الجدران الفاصلة، لتبعد المتطفلين. لكن بسم الله قال إن هناك بعض أجزاء من أسلاك السياج يمكن لأي شخص الدخول منها، بطول الجانب الغربي. انتظرا حتي حلول الغروب. الوقت الذي يتوقف فيه لاعبو الجولف عن اللعب ليتجنبوا البعوض ويعودون إلي مبني النادي ليحتسوا العصائر. احتفظا بالخطة لأنفسهما ولم يخبرا جيرانهما. مشيا حتي المسجد بملتقي الشارعين، حيث مأذنة مميزة باللونين الأحمر والأبيض من بين المباني المحيطة. ثم انعطفا للطريق الرئيسي حاملين المضرب الحديدي وصفيحتي كيروسين.
عبرا الجانب الآخر من استوديو الفنانين. اتجها نحو حقول الأرز حيث جري نهر "أدي غانجا" في يوم ما. مصب نهر الغانجا المتفرع من الجنوب الشرقي حتي خليج بنجلاديش. كان راكدًا حينها، محاطًا بمستوطنات الهندوس الهاربين من دكا، وراجشاهي، وشيتاغونغ. قطاع من السكان المشرد الذي استضافته كلكتا ثم تجاهلته. منذ عقد، بعد تقسيم الهند، انتشروا بأجزاء من تولليجانج من ناحية الطريق المؤدي للأرض المنخفضة والذي حجبته الأمطار الموسمية. استلم بعض موظفي الحكومة منازل في برنامج التبادل. لكن الأغلبية كانت من اللاجئين، توافدوا في مجموعات، مطرودين من أرض أسلافهم. بدأ الأمر بموجات قصيرة ثم تكاثرت الأعداد كفيضان. تذكرههما سباش وأودين. مسيرة متجهمة. سرب بشري. الرضع مطوقون حول صدور آبائهم، القليل منهم فوق رؤوسهم.

بنوا عششًا للاجئين، سقوفها من الكتان أو القش، وجدرانها من الخيزران المربوط بإحكام. عاشوا بدون نظام صحي وبدون كهرباء. عشش قذرة بجانب كومات الزبالة، في أي مساحة صالحة للبناء. إنهم السبب في أن يكون أدي جانجا قناة مجاري لجنوب غرب كلكتا، حيث يوجد نادي توللي حاليا. كما أنهم السبب في بناء إدارة النادي المزيد من الجدران.
لم يجد سباش وأودين سياجًا شائكًا، فتوقفا عند جدار منخفض يسمح لهما بالتسلق. كانا يرتديان سراويل قصيرة. جيوبهما محشوة بكرات الجولف. قال بسم الله إنهما سيجدان الكثير منها بالنادي، حيث الكرات علي الأرض، بجانب القرون الذابلة الساقطة من أشجار التمر الهندي.
قذف أودين بالمضرب الحديدي عبر الجدران ثم واحدة من علب الكيروسين. فالوقوف علي علبة الكيروسين الباقية سيعطي سباش الطول المناسب ليتخطي الجدار. لكن أودين حينها كان أقصر ببوصات. قال ل سباش:
- اعقد أصابعك.
شبك  سباش يديه. شعر بثقل قدميّ أخيه، النعل البالي لصندله، ثم جسده كله. ضغط نفسه لأسفل للحظة، ثم رفع جسده بسرعة عاليا وامتطي الجدار. سأله سباش:
- هل أبقي لحراسة هذا الجانب حتي تستكشف المكان؟ هل المكان جميل؟ ماذا تري يا أودين
- اقفز لتري بنفسك.
دفع سباش علبة الكيروسين بالقرب من الحائط. صعد فوقها، وأحس بالعلبة المجوفة ترتعش تحت ثقل جسده. حثه أودين:
- اسرع يا سباش.
عدل من جلسته وحرك جسده للجانب الآخر ولم يعد يظهر منه سوي أطراف أصابعه. ثم أفلت يديه وسقط. كان سباش يسمع لهاثه. سأله:
- أنت بخير
- بالطبع. الآن دورك.
قبض سباش علي الجدار بيديه، متشبثا به بصدره، ومكوما ركبتيه. كالمعتاد لم يكن متأكدا إذا كان محبطا أكثر بسبب جسارة أودين أم بسبب افتقاده إياها. كان سباش في الثالثة عشر، يسبق أخيه بخمسة عشر شهرا. لكنه لا يشعر بأهميته بدون أودين. كل ذكريات طفولته، في كل خطوة، كان أخيه موجودا. فجأة لم يعودا موجودين ب تولليجانج. في إمكانهما سماع حركة السير مستمرة في الشارع ولكنه لم يعد في مجال رؤيتهما. كانا محاطين بأشجار الجوز والكافور والأشجار المزهرة.
لم ير سباش أبدا عشبًا مستويًا كسجادة مثل هذا، ممتدًا علي منحدرات الأرض المائلة. متموجًا مثل كثبان الرمال بصحراء، أو مثل موجات بحر هادئة. كان مقصوصا بعناية حول حفر الجولف، ملمسه كطحلب عند الضغط عليه. بدت الأرض ملساء كفروة رأس تنعكس الأضواء عليها.
لم ير أبدا هذا العدد الكبير من طائر البلشون في مكان واحد، تحلق بعيدا كلما اقترب منها. تمتد ظلال الأشجار علي العشب الأخضر. يتخيل ابتعاد فروعها الرقيقة كلما نظر ناحيتها، مثل أعضاء حميمية لامرأة.
كانا يشعران بالإثارة لدخولهما النادي، لخوفهما من أن يراهما أحد. لكنهما لم يريا أي حارس، سواء مرتجلا أو ممتطيا حصانًا، أو بستاني ليمسك بهما. بدآ في الاسترخاء والبحث عن الأعلام المغروسة بطول الملعب. تشير الحفر التي كانت مثل سرات في الأرض إلي حيث يجب أن تذهب كرات الجولف. هناك حفر ضحلة من الرمال منثورة هنا وهناك. البرك حول الحفر لها شكل غريب، مثل القطرات تحت الميكروسكوب.
بقيا بعيدا عن المدخل الرئيسي. لم يغامرا بالاقتراب من مبني إدارة النادي، حيث الأجانب المحبين يتنزهون وأذرعهم متشابكة، أو يجلسون علي كراسي الخيزران تحت الأشجار. أخبرهما بسم الله أنهم يقيمون أحيانا حفل عيد ميلاد لأطفال إنجليز مازالوا يعيشوا بالهند. يتناولون المثلجات ويركبون المهور، ويلتفون حول تورتة بها شموع مشتعلة. رغم أن نهرو كان رئيس الوزراء حينها، لكن كانت صورة الملكة إليزابيث الثانية تتصدر حجرة الاستقبال.
في ركنهما المهمل، بصحبة الجاموس الذي ضل طريقه للداخل، تمايل أودين بقوة رافعا ذراعيه فوق رأسه، متظاهرا باللعب وملوحا بالمضرب الحديدي مثل سيف. خرب العشب البكر، وقذف ببعض كرات الجولف في برك الماء. استقرت هناك في انتظار المضارب.
كان سباش حذرا، يسترق السمع لحوافر الأحصنة القريبة علي المسارات الحمراء الترابية العريضة. سمع صوت نقر عصافير. وصوت ضربات منجل بعيد، حيث يتم قص العشب في مكان ما بالنادي باليد.
قطعان من بنات آوي تجلس منتصبة في مجموعات، جلودها ذات اللون الأسمر المصفر أصبحت مبرقشة بالرمادي. حين انحصر الضوء، نهض القليل منها للبحث عن طعام. انتصبت هيئتها الهزيلة سريعا باستقامة. يتردد عواؤها الهائج في أنحاء النادي، في إشارة لتأخر الوقت، وحتمية عودة الأخوين إلي المنزل.
تركا علبتي الكيروسين، واحدة في كل جانب، ليميزا المكان. وتأكدا أنهما أخفيا العلبة التي وراء السور خلف بعض الشجيرات.
في الزيارات التالية، جمع سباش الريش واللوز. ورأي النسور تسبح في البرك، ثم تبسط أجنحتها لتجف.
ذات مرة، وجد بيضة سليمة وقعت من عش أحد الطيور. حملها بحرص شديد لمنزله. وضعها في وعاء طيني اشتراه من متجر حلوي، ثم غطاه بفروع أشجار صغيرة. وعندما لم تفقس، حفر حفرة من أجلها في الحديقة خلف المنزل، أسفل شجرة المانجو.
ذات أمسية، ألقيا المضرب الحديدي من أعلي الجدار، وقفزا للجانب الآخر، لكنهما لم يعثرا علي علبة الكيروسين. قال أودين:
- شخص ما وجدها وأخذها.
وبدأ في البحث عنها. كان الضوء ضعيف.
- هل هذا ما تبحثا عنه أيها الأولاد؟
كان شرطيًا ظهر فجأة، يقوم بدورية حراسة حول النادي. كان في استطاعتهما تمييز شموخه وزيه. كان ممسكا بعلبة الكيروسين بيديه. خطي بعض الخطي في اتجاههما، ونظر للمضرب الحديدي علي الأرض، ثم التقطه وفحصه. جلس فوق علبة الكيروسين وأضاء مصباحا يدويا ثم أداره نحو وجه كل منهما، نزولا لأجسامهما. سأل:
- أنتما أخوان؟
- أومأ سباش.
- ماذا بجيوبكما؟
أخرجا كرات الجولف وأعطياها له. شاهدا الشرطي يضعها في جيوبه. أبقي واحدة فحسب بيديه، يرفعها في الهواء ثم يلتقطها.
- كيف جئتما لهنا؟
لم يتكلما.
- هل دعاكما أحدهم اليوم لتلعبا الجولف بالنادي؟
هزا رأسيهما نفيا.
- أنتما لستما في حاجة لأخبركما أن هذه الأراضي خاصة.
أراح مقبض المضرب الحديدي قليلا فوق ذراع سباش. وسأله:
- هل هذه زيارتك الأولي؟
أجاب سباش::
- لا.
- هل كانت فكرتك؟ أليس أنت كبير بشكل كاف لتعرف أكثر؟
قال أودين:
- كانت فكرتي أنا.
قال الشرطي لسباش:
- لك أخ مخلص. يريد أن يحميك. ويرغب في العقاب بدلا منك.
ثم أكمل حديثه:
- سأقدم لكما خدمة, لن أذكر ما حدث لإدارة النادي. طالما لن تحاولا العودة مرة اخري.
قال سباش::
- لن نعود مرة أخري.
- جيد. هل أرافقكما إلي المنزل أم من الأفضل إنهاء محادثتنا هنا؟
- هنا.
- إذن، استدر. أنت فقط.
أدار سباش وجهه للجدار. فقال له الشرطي:
- اخطو خطوة للأمام.
ثم شعر بالمقبض الحديدي يضرب فخذيه، وقدميه. الضربة القوية الثانية كانت علي يديه وركبتيه. أخذت التورمات عدة أيام حتي اختفت.
لم يضربهما والداهما أبدا. لم يشعر بشئ في البداية، فقط بعض الخدر. ثم احساس مؤلم مثل ماء مغلي ينطلق في شرارات من مقلاة علي جلده.
صاح أودين بالشرطي:
- توقف.
وانحني بجانب سباش، ملقيا ذراعه علي كتفيه، محاولا أن يغطيه. ضغطا جسديهما معا، وحميا نفسيهما. كانت رأسهما منحنيين، وعيونهما مغلقة، بينما يترنح سباش من الألم. لم يحدث شئ آخر. سمعا صوت ارتطام المضرب الحديدي بالجدار، سقط لمرة أخيرة فوق أراضي النادي. ثم انسحب الشرطي، الذي لم يرد شيئًا آخر منهما.

3
منذ طفولته، كان سباش هادئا. لم تضطر أمه أبدا للركض وراءه. كان يبقي بصحبتها، يراقبها وهي تطهو علي فحم الموقد، أو تطرز ثياب الساري والقمصان بتكليف من خياط السيدات بالحي. يساعد والده في زراعة زهور الداليا التي يزرعها في أصص في فناء المنزل. الزهور المتوردة تتلون بالبنفسجي والبرتقالي والقرنفلي، وتميل في بعض الأحيان للأبيض. كانت ألوانها الزاهية تترك أثرًا بجانب جدران الفناء الباهتة. كان ينتظر انتهاء ألعاب الفوضي وسكون الصيحات ليستمتع بالهدوء. وقته المفضل دوما عندما يكون بمفرده. مستلقيا بالفراش في الصباح، يراقب أشعة الشمس الوامضة كطائر قلق علي الجدار.
يضع الحشرات تحت الشاشة المقببة ليفحصها. عندما تغسل أمه الأطباق علي أطراف المستنقع بالحي إذا لم تأت الخادمة، يقعر يديه في الماء العكر ليبحث عن الضفادع. يعيش في عالمه الخاص. حتي أن الأقارب في التجمعات الكبيرة كانوا غير قادرين علي استخراج رد فعل منه، أحيانا كان يتحدث معهم.
بينما يجلس سباش في وضع مرئي، كان أودين يختفي: حتي في حجرتهما الخاصة حين كان صبيا، كان يختبيء بشكل لا إرادي تحت الفراش، خلف الأبواب، في الصندوق حيث ألحفة الشتاء المخزنة.
يلعب تلك اللعبة بدون الاعلان عنها. يختفي بعفوية، يتسلل للحديقة الخلفية، يتسلق شجرة، ويجبر أمه عندما تنادي عليه ولا تتلقي إجابة، أن تتوقف عما تفعله. وبينما تبحث عنه، بينما تلاطفه وتصيح باسمه، يري سباش طيف هلع خاطف علي وجهها، خوفا من اختفائه للأبد. عندما كبرا بشكل كاف، سُمح لهما بالخروج بمفردهما. كانت التعليمات ألا يغيب أحدهما عن نظر الآخر. تجولا معا في الحارات المتعرجة للمقاطعة، خلف المستنقعين وعبر الأرض المنخفضة، وصولا للملاعب حيث يقابلا أحيانا الأولاد الآخرين. كانا يذهبا للمسجد في الزاوية ليجلسا علي أدراجه الرخامية الباردة، ويستمعان أحيانا لمباراة كرة قدم في راديو أحدهم. لم يكن حارس المسجد يكترث لهما.
أخيرا حصلا علي إذن بالخروج من المقاطعة والذهاب إلي المدينة الكبيرة. هناك ابتعدا قدر إمكانهما، وركبا الترام والأوتوبيسات بنفسهما. وبقي المسجد بالزاوية، مكان عبادة أصحاب الديانة الأخري، واجهة لذهابهما وقدومهما.
في مرحلة ما، بدآ التسكع حول ستوديو الفنانين، لأن أودين اقترح ذلك. حيث كان المخرج ساتياجيت راي يصور فيلم "أغنية الطريق القصير"، وحيث يقضي نجوم السينما البنغالية وقتهم. كانا يعرفان أحد العاملين بالتصوير، ساعدهما علي الدخول وسط كومة من الأسلاك والكابلات والأضواء الساطعة. بعد دعوة السكوت والكلاكيت، رأيا المخرج وطاقمه يصورون ويعيدون تصوير مشهد واحد عدة مرات لإتمام عدد قليل من أسطر السيناريو. يوم كامل من العمل مكرس لدقيقة من الرفاهية. خطف أبصارهما ممثلات جميلات يخرجن من غرف الملابس، مختبئات وراء نظاراتهن الشمسية، ثم دخلن سيارات في انتظارهن. كان أودين جريئا بشكل كاف ليطلب منهن توقيعًا. كان عاجزًا عن كبح عواطفه، مثل حيوان جامح. لكن سباش جاهد ليقلص وجوده، مثل الحيوانات الخجولة.
رغم اختلافهما لكن الخلط بينهما سهل. لذلك عندما يُنادي علي أحدهما، كانا كلاهما يستعد للإجابة. وأحيانا كان من الصعب معرفة من الذي أجاب، لتطابق صوتيهما. يجلسان حول رقعة الشطرنج كمرآه وانعكاسها: قدم مطوية والأخري ممدودة، والذقن مسنودة علي الركبة. كانا متشابهين في بنيتهما بشكل كاف ليجعلهما يرتديان نفس الملابس. لهما نفس اللون النحاسي الفاتح الموروث من والدهما. كانا متجانسين. مفاصل أصابعهما، وملامحهما الحادة، وشعرهما المتموج.
تخوف سباش من طبيعته الهادئة وتساءل إذا رأي والديه أنها تعني نقص في الابتكار، ربما رأيا أنها خيبة. لم يكن علي والديه أن يقلقا عليه، لم يقوما بتمييزه. أصبحت مهمته طاعتهما، لم يكن من الممكن أن يفاجئهما أو يترك بصمته الخاصة لأن هذا من اختصاص أودين.
بالفناء الخلفي لمنزل العائلة، هناك أكبر قدر من ميراث أودين من الأخطاء التي لا تمحي. أثر طبعة قدمه. طبعها في اليوم الذي رصف فيه السطح الترابي. ذلك اليوم الذي تلقوا فيه تعليمات بعدم الخروج حتي يجف الأسمنت.
طوال اليوم كانا يراقبان البناء أثناء اعداده الأسمنت في عربة يد، ثم يفرده ويصقله بأدواته. حذرهم البناء قبل رحيله ألا يخطو فوقه لأربعة وعشرين ساعة.
أطاعه سباش. كان يشاهد من النافذة ولم يخرج للفناء. لكن بمجرد انشغال أمهما عنهما، جري أودينفوق اللوح الخشبي الطويل الذي وضع مؤقتا ليصل المنزل بالشارع. فقد توازنه في منتصف اللوح الخشبي تاركا دليل مروره بطبع باطن قدمه، مثل ساعة رملية بالمنتصف، ثم أصابع قدميه المنفصلة عن باطن القدم.
في اليوم التالي، بعث والدهما في طلب البناء مرة أخري. كان السطح قد جف، والأثر الذي تركه أودين أصبح دائما. كان الحل الوحيد لإصلاح ما حدث هو وضع طبقه أخري من الأسمنت. تساءل سباش إذا كان أخوه أخطأ خطأ كبير في هذه المرة. لكن البناء قال لوالديهما:
أتركه كما هو -
ليس للتكلفة أو للمجهود المضاعف، لكن بسبب اعتقاده أن من الخطأ محو خطوات اتخذها ولده. بذلك صار هذا الخلل علامة تميز منزلهما. علامة يلاحظها الزائرون. وأول طرفة تحكيها الأسرة.
كان من المحتمل ذهاب سباش إلي المدرسة قبل أخيه بعام. لكن لتحر الوقت المناسب  وأيضا بسبب اعتراض أودين علي فكرة ذهاب سباش إلي المدرسة بدونه  تأجل ذهابه للعام التالي. ذهبا سويا إلي نفس الفصل الدراسي بمدرسة بنغالية متوسطة للأولاد من العائلات المتوسطة، وراء محطة الترام، مرورا بالمقابر المسيحية.
في دفترين متطابقين، لخصا تاريخ الهند وتأسيس كلكتا. رسما الخرائط ليتعلما جغرافيا العالم. درسا أن تولليجانج قد بُنيت علي أرض محتلة. وأن مجري الخليج البنغالي عندما كان قويا منذ قرون مضت، كان ممتلئًا بأشجار القرم. المستنقعان وحقول الأرز والأرض المنخفضة بقايا كل هذا. 
رسما صور لأشجار القرم كجزء من دروس العلوم. جذورها المتشابكة علي سطح الماء، مسامها الإضافية للحصول علي الهواء. شجيراتها الممتدة تسمي براعم منفصلة، تشبه السيجار.
تعلما إذا سقطت تلك البراعم في وقت انحسار الجذر تتكاثر بجانب آبائها، تغرز نفسها بالمستنقع المالح. لكن في المد المرتفع، تنجرف من منبتها، لمدة تزيد علي عام، قبل أن تنمو في بيئة ملائمة.
أزال الإنجليز الغابة المغمورة بالمياه، ورسموا وخططوا الشوارع. في عام 1770، أسسوا ضاحية وراء الحدود الجنوبية لكلكتا، كان سكانها الأوائل من الأوروبيين. ضاحية حيث يمكن للغزال التجول، وللطائر الرفراف التحليق في الأفق.
شق الرائد ويليام توللي، الذي سميت المنطقة تيمنا باسمه، فرعا من نهر أدي غانجا، وعرف باسم توللي نولا، جاعلا التجارة الملاحية ممكنة بين كلكتا وشرق بنجلاديش.
تعود أراضي نادي توللي في الأصل إلي ريتشارد جونسن، مدير البنك العام الهندي. في عام 1785 بني فيلا علي طراز بالاديو، واستورد أشجارا إلي تولليجانج من كل أنحاء البلاد والجزر شبه الاستوائية.
في بداية القرن التاسع عشر، احتجزت شركة الهند الشرقية الإنجليزية أرملة السلطان تيبو وأبناءه في ممتلكات جونسون، بعد مقتل تيبو حاكم سلطنة مايسور الهندية في حرب الأنجلو مايسور الرابعة.
نُقلت الأسرة المعزولة من سيرنجاباتم بأقصي جنوب غرب الهند. وبعد إطلاق سراحهم، مُنحوا أراض في تولليجانج ليعيشوا بها. وفي الوقت الذي انتقل فيه الإنجليز إلي وسط كلكتا، أصبحت تولليجانج مدينة ذات غالبية إسلامية. بالرغم من أن التقسيم حوّلهم إلي أقلية مرة أخري، لكن بقي الكثير من أسماء الشوارع إرث سلالة تيبو النازحة: شارع سلطان علام، شارع الأمير بختيار شاه، شارع الأمير جولام محمد شاه وزقاق الأمير رحيم الدين.
بني جولام محمد المسجد الكبير في دارمات الله في ذكري وفاة والده. ولفترة سُمح له بالإقامة في فيلا جونسون. لكن بحلول عام 1895، عندما أخطأ الاسكتلندي ويليام كروكشانك طريقه ممتطيا حصانه إلي داخل الفيلا الضخمة باحثا عن كلبه المفقود، وجد الفيلا مهجورة، يعيش بها قطط الزباد وتغطي النباتات المتسلقة جدرانها.
رمم كروكشانك الفيلا من جديد وحولها إلي النادي الريفي. أصبح أول مدير له. في بداية الثلاثينات، مد خط الترام حتي الجنوب من أجل الإنجليز. كان هذا لتسهيل رحلتهم إلي نادي توللي الذي يقصدونه هروبا من فوضي المدينة، وليكونوا في أملاكهم.
في المدرسة الثانوية درسا الأخوان علم البصريات، الأعداد الذرية للعناصر، خصائص الضوء والصوت. درسا اكتشاف هرتز للموجات الكهرومغناطيسية، وتجارب ماركوني مع الإرسال اللاسلكي. أوضح جاديش شاندرا بوس، العالم البنغالي، في تجربة بقاعة مدينة كلكتا، أن الموجات الكهرومغناطيسية قد تشعل البارود، وقد تجعل الجرس يرن من علي بعد.
كل ليلة، علي جانبي طاولة المذاكرة المعدن، يجلسا أمام كتبهما، دفاترهما، أقلامهما الرصاص والممحاة، وفي نفس الوقت معهما لعبة الشطرنج.
يسهران لوقت متأخر ليعملا علي المعادلات والقوانين الرياضية. كان الليل هادئا لدرجة تمكنهما من سماع عواء أبناء آوي بنادي توللي. في بعض الأحيان يظلان ساهرين حتي تبدأ الغربان في العراك في انسجام، في إشارة إلي بداية يوم آخر.
لم يكن أودين يخاف من معارضة معلميه حول الهيدروليات أو الصفائح التكتونية. كان يلوح بيديه ليفسر ما يقوله، ليؤكد آراءه. تبادل حركة يديه يشيرإلي أن الجزيئات والجسيمات في قبضة يديه. أحيانا كان يتم طرده من الفصل الدراسي. قيل إنه متأخر عن زملائه في حين إنه في الحقيقة كان متقدما عنهم.
في نهاية المرحلة الثانوية، عين والدهما مدرسا خصوصيا ليعدهما للعبور من اختبارات الجامعة. عملت أمهما ساعات إضافية لتغطي النفقات. كان رجلا جادا، له جفون مشلولة مفتوحة دوما ومشبك علي نظارته. يأتي كل ليلة للمنزل ليراجع ازدواجية موجة-جسيم، قوانين الانكسار والانعكاس. جعلهما يحفظنا عن ظهر قلب قاعدة فيرما: أقصر الأوقات لتعيين مسار الضوء بين نقطتين.
بعد دراسة أساسيات الدوائر الكهربائية، بدأ أودين اكتشاف النظام الكهربائي بمنزلهم بنفسه. حصل علي مجموعة من الأدوات، وبدأ في تصليح الكابلات العطلانة ومفاتيح الكهرباء وربط الأسلاك، وإزالة الصدأ الذي أصاب المروحة. أصاب أمه بالهلع حتي إنها كانت تغطي إصبعها باستمرار بقماش الساري لأنها كانت مذعورة من لمس مفتاح الكهرباء بأصبعها المجرد.
عندما احترق فيوز، ارتدي أودين خفا مطاطيا غير ناقل للكهرباء. فحص الدائرة الكهربائية وفك الفيوز، بينما سباش ممسكا المصباح اليدوي له. في أحد الأيام، جاء إلي المنزل معه سلك وقرر تركيب جرس لباب المنزل من أجل الزوار. ركب المحول في صندوق الفيوز والزر الأسود الخاص بالجرس في الباب الرئيسي. طرق بالمطرقة في الجدار محدثا حفرة ليدخل الأسلاك من خلالها. بمجرد تركيب الجرس، قال أودين:
- لابد من استخدامه لممارسة شفرة مورس.
حين وجد كتابًا عن التلغراف بالمكتبة، كتب أودين نسختين من النقط والخطوط الفاصلة تطابق الحروف الأبجدية، واحدة لكل منهما ليحفظاها.
رنين الخط الفاصل أطول من رنين النقطة بثلاثة أضعاف. وكل من النقطة والخط الفاصل يتبعه فترة سكون. كما أن هناك ثلاث نقط بين الحروف، وسبع نقاط بين الكلمات. عرفا أنفسهما بالحروف الأولي من أسمائهما. فالحرف s الخاص ببسباش الذي استقبله ماركوني عبر المحيط الأطلنطي، كان ثلاث نقاط سريعة. أما U الخاص بأودين فكان نقطتين وخط فاصل.
تبادلا الأدوار. وقف أحدهما بجانب الباب خارج المنزل، والآخر بداخله. يضغط من بالخارج الجرس للآخر الذي يحاول فك الشفرة. نجحا بشكل كاف في إرسال رسائل مشفرة لم يفهمها والداهما. اقترح أحدهما "سينما" لكن رد الآخر "لا، محطة الترام، سجائر".
ألفا سيناريوهات. تظاهرا بأنهما جنديان أو جاسوسان في مأزق. يحاولان التواصل خفية في ممر جبلي بالصين أو غابة روسية أو حقل قصب السكر بكوبا.
"مستعد"
"بوضوح"
"إحداثيات؟"
"مجهولة"
"الناجون"
"إثنان"
"الخسائر"
بالضغط علي الجرس، كانا يخبران بعضهما أنهما جائعان، وأنهما يجب أن يلعبا كرة القدم، وأن هناك فتاة جميلة تمر بجانب المنزل. كان الجرس أرجوحتهما الخاصة، الطريقة التي يقذف بها لاعبان الكرة بينهما بينما يتقدمان معا ليحرزا هدفًا. وإذا رأي أحدهما معلمهما قادمًا، يضغطان SOS. ثلاث نقاط، ثلاثة خطوط فاصلة، ثلاث نقاط.
دخل إثنان من أفضل الجامعات بالمدينة. التحق أودين بجامعة برزندنسي ليدرس الفيزياء. أما سباش فالتحق بجامعة جي يو لدراسة الهندسة الكيميائية. كانا الشابين الوحيدين من الحي، والطالبين الوحيدين من مدرستهما العليا غير المميزة، لقد أنجزا بشكل جيد.
من أجل الاحتفال، ذهب والدهما إلي المتجر واشتري كاجو وماء الورد لطهو أرز البيلاف، ونصف كيلو من أفخر أنواع الجمبري. بدأ عمله وهو في التاسعة عشر من عمره ليساعد عائلته. وكان عدم إلتحاقه بالجامعة أسفه الوحيد. عمل بمنصب كهنوتي بسكة حديد الهند، وعندما شاع نجاح ولديه في الحي، قال إنه لم يعد قادراعلي المشي خارج المنزل بدون أن يوقفه أحدهم ليهنئه.
أخبرهم ألا يقوموا بتهنئته هو. فالفضل يعود لولديه اللذين عملا بشكل جدي، وميزا نفسيهما. وما وصلا إليه، حققاه بنفسيهما. سألهما ماذا يريدان كهدية، اقترح سباش أن يجلب لهما شطرنج رخامي بدلا من الشطرنج الخشبي الرث. لكن أودين كان يريد راديو قصير الموجات. كان يريد معرفة أخبار عن العالم أكثر مما يقدمه لهما راديو والديهما القديم المغطي بخزانة خشبية، أو ما كانت تقدمه جريدة بنغالي اليومية الملفوفة كغصن شجرة رفيع لإلقائها من فوق جدار فناء المنزل في الصباح.
قاما بجمع أجزاء الراديو بأنفسهما، بحثا في متجر كلكتا الجديد ودكاكين الخردة، ووجدا أجزاء من فائض الجيش الهندي. اتبعا مجموعة من التعليمات المعقدة، ومخطط الدائرة الكهربائية المهترئ. وضعا القطع علي السرير: هيكل راديو معدني، المكثفات، المقاومات المختلفة، والسماعات. لحما الأسلاك، وعملا سويا لإتمام المهمة. عندما أتماها في النهاية وأغلقا هيكل الراديو، أصبح يشبه حقيبة سفر صغيرة، بمقبض مربع. مصنوع من المعدن، ولونه أسود.
كان الإرسال دوما أفضل في الشتاء عن الصيف. وبشكل عام أفضل أثناء الليل. كان هذا عندما تتوقف الفتونات الشمسية عن تفتيت الجزيئات في الغلاف الأيوني. عندما تنضم الجزيئات الإيجابية والسلبية معا بسرعة.
كانا يتبادلان الأدوار بجانب النافذة، والراديو بأيديهم في أوضاع مختلفة، يضبطان الهوائي ويتلاعبان بأزرار تلقي الموجات. يديران إبرة الردايو ببطء قدر استطاعتهما. لقد نشئا مطلعين علي نطاقات/خطوط التردد. 
بحثا عن الإذاعات الأجنبية. نشرة أخبار من راديو موسكو، صوت أمريكا، راديو بكين، إذاعة بي بي سي. سمعا معلومات عشوائية آتية  من علي بعد مئات الأميال، برزت من تداخلات متشابكة مهتاجة كأمواج محيط، ومرتعشة مثل رياح. حالة الطقس في وسط أوروبا، أغاني فولكورية من أثينا وخطاب لجمال عبد الناصر. تقارير من دول تمكنت من تخمين لغتها: فنلندي، تركي، كوري، برتغالي. كان هذا في عام 1964، معركة خليج تونكن سمحتلأمريكا بالتدخل العسكري في فيتنام، وهناك انقلاب عسكري في البرازيل.
في كلكتا، تم إطلاق فيلم "الزوجة الوحيدة" في السينما. حدوث موجة جديدة من الشغب بين المسلمينوالهندوس وقتل أكثر من مائة شخص بعد سرقة أثر مقدس من أحد المساجد في سرينجار. هناك انقسام بين الشيوعيين الهنود حول الصراع علي الحدود مع الصين الذي حدث منذ عامين. المجموعة المنشقة التي تعاطفت معالصين، تطلق علي نفسها الآن الحزب الشيوعي الهندي أو الماركسيين.
حزب الكونجرس الوطني الهندي لا يزال قيد الحكومة المركزية بدلهي. بعد رحيل "نهرو" أثر إصابته بأزمة قلبية في هذا الربيع، دخلت ابنته "انديرا" مجلس الوزراء. وفي خلال عامين ستصبح رئيسة الوزراء.

نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015

أرض مجهولة

وصلت الرواية الأخيرة لجومبا لاهيري للقائمة القصيرة لجائزة البوكر. تدور أحداثها حول أخوين هنديين يعيشان بالهند بعد استقلالها. "سباش" و"أودين" اللذان لم ينفصلا أبدا أثناء طفولتهما، ولكنهما يختارا طريقين مختلفين تماما عند وصولهما إلى العشرينات من عمرهما. أصبح "أودين"، الأخ الأصغر والأكثر مغامرة، عضو في حركة الناكسال الثورية بكلكتا، بينما غادر "سباش"، الأخ الحذر المتحفظ، الهند ليتابع الدراسات العليا في رود آيلاند بالولايات المتحدة. أدت مشاركة "أودين" في ثورة الناكسال إلى مقتله. حطم عائلته وهجر زوجته الشابة "جوري" التي كانت حامل بطفله. تكشف الرواية عن طرق تحول حيوات من تركهم "أودين" خلفه – "سباش"، "جوري" و"بيلا"، الأبنة التي لن يعرفها أبدا. هذا حديث مع جومبا لاهيري حول الرواية، والقراءة والكتابة التي تمارسها حتى انتهائها من الكتاب – خاصة تجربتها في ايطاليا.

المحرر: تدور أحداث الرواية بين كلكتا ورود آيلاند، حيث نشأت. كانت كلكتا خلفية للعديد من أعمالك الأدبية في الماضي، كما كانت رود آيلاند. أيهما أقرب لوصف طفولتك؟
لاهيري: في هذه المرة عندما أفكر في رود آيلاند أجدها مثيرة للاهتمام لأني أشعر إني لم أكتب عنها بوضوح سابقا. دارت أحداث بعض كتبي وبعض القصص في ولاية ماساتشوستس، المكان الذي أعرفه أيضا وعشت به، لكني أبدا لم أشر إلى رود آيلاند بشكل خاص حتى كتبت روايتي الأخيرة. لا أعرف لماذا. ربما شعرت أن من غير الملائم ذكر المكان الذي نشأت به – شعور ما، لا أعرف، شعور غريب حيال الأمر بطريقة ما. امتدتني ماساتشوستس بدرع مريح لفترة. أحداث رواية "السمى" تدور خارج بوسطن بولاية ماساتشوستس. تخيلت أن بعض أحداث قصص كتابي الأول "مترجم الأوجاع" تدور في رود آيلاند، ولكني لم أشر إلى ذلك، ربما تكون الأحداث في ولاية كونيتيكت، ربما تكون ماساتشوستس، أو ربما تكون في رود آيلاند نفسها. ولكن هذه الرواية هي الأولى التي أردت حقا أن تدور أحداثها في رود آيلاند. قرأت جزء من مجموعة مختارات أدبية منذ عدة سنوات بعنوان "State by State" قام بتحريرها شون ويسلي ومات ويلاند. أعتقد في الوقت الذي بدأت به كتابة "الأرض المنخفضة". كتابة هذا النص ومواجهة حقيقة نشأتي برود آيلاند لأول مرة بحياتي ساعدونني. ذلك المكان الذي لم أعرفه أبدا، وتلك التجربة التي لم تكتمل. فكرت إني أود أن تكون أحداثها في رود آيلاند، ووضع عنوانها هكذا. وفعلتها، وأعتقد إنها حررتني بطريقة ما لأفكر بها ولأكتب عنها وأتذكرها بالكامل.

المحرر: المناظر الطبيعية – ساحل الولاية بشكل خاص – كان ضروريا لـ"سباش". هل بدأتِ في البحث في رود آيلاند وفكرتِ بها من نفس منظور "سباش"؟
لاهيري: في الحقيقة لقد فعلت. بدأت في الذهاب إلى المعسكر حيث من المفترض أن يدرس، وحيث درس بالفعل. كنت أذهب إلى هناك وأتظاهر بأني هو. أسير بطول الشاطيء القصير. وانظر إلى ما يرى. كانت زيارتي لرود آيلاند، جزء من محاولتي لمعرفة أي شخصية هو، والتفكير في كيف تبدو حياته اليومية. على سبيل المثال، جذبت الكنيسة بالقرب من الشاطيء أنظاري وفكرت إنها ستكون في نطاق رؤيته.

المحرر: انخرط "أودين" في حركة الناكسال بكلكتا في نهاية الستينات. كم من الوقت استغرقت في رسم صورة لتلك الفترة، سواء بالقراءة عنها أو بالتحدث مع الناس الذين عاصروها؟ هل بدأتِ في كتابة هذه الأجزاء من الرواية مبكرا، ثم غرقتِ في التفاصيل، أم شعرتِ أن عليك أن تفهمِ تلك الحقبة التاريخية قبل شروعك في الكتابة عنها؟
لاهيري: لا، أردت أن أفهم تلك الفترة بشكل كامل واستيعابها قبل بدأي في الكتابة. وشعرت إني لن أستطيع، وخيب هذا آمالي لفترة زمنية طويلة. استعرت كتابين من المكتبة، من والدي. اعتقد إنهما بقيا بحوذتي لمدة سبع سنوات. قرأتهما بشكل دوري، وسجلت ملاحظاتي، ثم ابتعد عنهما لفترة. ثم أعدت قرائتهما، وقمت بتسجيل الملاحظات من جديد، ثم ابتعد عنهما مرة أخرى. وشعرت أن هذا سيستغرق سنوات، ولطالما كنت قلقة. فكرت، هل حقا فهمتهما؟ هل هكذا تسير الأمور؟
ثم فكرت أن حل هذا اللغز وثلاث أرباع الطريق إلى تلك الرواية هو كلكتا، فذهبت إلى هناك. في البداية تحدثت مع الناس طوال الوقت و سألت أصدقاء والداي بأمريكا، الذين لم يجيئوا إلى الولايات المتحدة في تلك الفترة ويتذكرون تلك السنوات، "أخبرني كيف كان الأمر، كيف كانت تلك السنوات، وماذا حدث؟". لكن عندما سافرت إلى كلكتا وتحدثت مع الناس هناك بشكل مفصل أكثر لأعرف المزيد عن الحركة – لماذا قامت، وكيف؟ - بدا لي إني وجدت حلا اللغز بالفعل. فجأة شعرت أن كل الملاحظات التي سجلتها أصبحت ذات مغزى.
وكان هذا المفتاح الأخير الذي جعلني أشعر بشكل مفاجيء بقدرتي على كتابة الرواية بدون الحاجة إلى كل هذا البحث وهذه الكتب. وأدركت أن الشخصيات قوية بشكل كاف وأن بواعثهم صارت أقوى بالنسبة لي ومرضية وسمحت لي بالتعمق معهم، وعرفت أن هذا جزء من ماهيتهم وعالمهم. وكانت هذه أخر مرحلة. المرحلة الأولى تضمنت العديد من الأبحاث، ولكنها بقت غامضة، رويدا رويدا أصبح التاريخ واضح أمامي، وكلما وضحت الأمور، كلما شعرت بعدم حاجتي لها.

المحرر: في "الأرض المنخفضة" تختلف كتابتك تماما عن الماضي. الجمل أقصر في بعض الأحيان ومشذبة – تستخدمي شظايا الجملة أكثر، على سبيل المثال، أكثر مما فعلتي من قبل – حتى أن السرد أكثرعمقا. هل فعلتِ ذلك بشكل واع؟
لاهيري: قليلا. أردت أن أكتب بطريقة مختلفة في ذلك الكتاب. لم أرد أن يكون ثقيل، لأني شعرت بمدى ثقله وكثافة مادته، أوضاع الشخصيات، وظروفهم، كل هذا كان ثقيل للغاية. ما أردته هو قول ما احتاجه بطريقة مقتصدة قدر الإمكان. أردت أن أحقق شئ من الخفة. لذلك حاولت حذف الكثير أكثر مما أفعل في الطبيعي. كانت المسودات الأولية مربكة وبها من الثقل ما يكفي وغير مرضية، لوجود الكثير من المعلومات، والكثير من التاريخ، والكثير من العاطفة – شعرت بعبء وقررت إزالته.

المحرر: واحد من التصنيفات التي صنفتها مكتبة الكونجرس لرواية "الأرض المنخفضة" بعد أخذ الأخوان وحركة الناكسال في الاعتبار كان التثليث. المثلث الرئيسي بالرواية بالطبع هو العلاقة بين "سباش" و"أودين"، أو بالأحرى ذكرى "أودين"، وزوجته "جوري". ولكن هناك علاقات مختلفة في الرواية، مثل التي بين "سباش" و"جوري" وإبنتها "بيلا". ماذا أضافت عملية التثليث تلك لك ككاتبة؟
لاهيري: حسنا، عرفت منذ سنوات عندما درست الكتابة بجامعة بوسطن، أن تلك العلاقات الثلاثية تساعد للغاية في بناء قصة، لأن المثلث شئ ثابت، وأفضل من المربع عريض المساحة. هناك شئ ما حياله يخلق الدراما. وكنت بالتأكيد واعية لمتوالية المثلثات، بشكل كلي، وأطلقت سراحها تدريجيا بطول الرواية. أعتقد أن هذا البناء رائع لخلق عامل الجذب. كما أعتقد أن بعض الروايات والقصص الجذابة لديها نفس عوامل الجذب، مثل شخصيتان تريدان شئ ما، وما هو الشئ الذي يريدنه، أو من هو الشخص الذي يريدنه؟ يمكن للأمر أن يسير في اتجاهات مختلفة متعددة. غالبا أفكر أن الرواية لابد أن تكون حول مغزى العائلة. ورغم أن العائلة يمكنها أن تضم عدد كبير من الناس، لكن لابد أن تركز على ثلاث شخصيات فحسب. وإذا فكرت في العائلة، أكتب على الأقل عن جيلين. وهذا عنصر أخر أساسي أقوم باكتشافه.

المحرر: المقتطف الذي نشرناه في عدد القصة الصيفي انتهى عندما قام "سباش" بسؤال "جوري"، الحامل بطفل "أودين"، إذا كانت تود أن تنتقل معه لرود آيلاند. فأي شئ قد يحدث في أمريكا، وأحد السيناريوهات هو أنهما قد يجدا بعض السعادة معا. هل كنتِ مدركة لاحتمالية حدوث ذلك؟ وهل كنتِ دوما تعرفين أن الواقع أكثر تعقيدا؟.
لاهيري: دائما كنت أعرف. أعني، حتى عندما وصلا لذلك الحل والذي كان ملحا لهما في ذلك الوقت، كان حل خاطئ وغير خاطئ في آن. كان مجرد شئ شعرا إنه ضروري، ولكنه ليس من الضروري أن يكون حل للمشكلة. فكرت في الحياة من هذا الاتجاه، عندما تفعل شئ وأنت مدرك إنه ليس أفضل شئ يمكن فعله ولكنك تقوم به على أي حال لحتميته في هذه اللحظة. لذلك عملت على هذا، ولكن لم يشغلني أبدا أن أجلب لهما السعادة في النهاية. لم يخطر ببالي أي شئ سوى المزيد من التطور معقد ومعضل.

المحرر: هل عرفتِ أن حياتهما الزوجية ستصل لمنعطف خطر في رود آيلاند، أم إنه شئ عرفته أثناء الكتابة؟
لاهيري: ليس بالضبط. عرفت إنهما سيحتفظا بالطفلة – وإنها ستولد ولكني لم أعرف كيف سيؤثر ذلك عليهما. اعتقد أن الانقسام الحاد الذي شعرا به تجاه الطفلة جعلني أفهم. من يشعر وبماذا وكيف. كان من المفترض أن تحصل "جوري" على الطفلة وتحبها بشدة لأنها ذكرى لزوجها الراحل الذي عشقته، وتتفقد اهتمامها بـ"سباش". قد يكون هذا أحد الطرق، صحيح؟ ولكن عندما بدأت أعمل على ما حدث فور ميلاد الطفلة، كنت أحاول فقط أن أتتبعهم، ثم ذهبت إلى اتجاه أخر.

المحرر: كانت "جوري" هي أكثرهم تأثرا بموت "أودين"، رغم إنها لديها ما يمكن استبداله به. فالطفلة "بيلا" لم تكن حقا بديل لخسارتها. وحتى عملها الذي شكل بعض العزاء لها، كان غير مثمر بشكل ما. كان لديها أكثر المسارات الدرامية بالرواية، ولكنها في النهاية رأت وميض أمل في الأفق أيضا. هل فكرتِ أن تدعيها تأخذ الخطوة الأخيرة؟ الوثبة النهائية؟ خطوة الاكتمال؟
لاهيري: نعم. فكرت في هذا. فكرت في منح الرواية نهاية محبطة أكثر ما هي عليه، ولكني تراجعت وقلت لا. شعرت أن الرواية أخذت حظها من الموت: ولديها الكثير من الفقد. والأكثر من ذلك، لهؤلاء الذين لديهم حس أدبي، فكرت في "بيلا". أصبحت أكثر اهتماما بشخصيتها وتطورها الشخصي، عندما بدأت في التفكير بها أكثر، من تكون حقا، كيف ستشعر، كيف ستنشأ، كل الأسرار والكذبات والأشياء التي قد تحدث لها، شعرت بالهلع فحسب. ها أنا سأنهي الرواية بعبء أخر ستحمله معها طوال حياتها. طريق أبيها الثوري العنيف، الرب وحده يعلم ماذا فعل. لقد مات، تم إعدامه!. كنت أفكر في انتحار أمها. لكن بدا لي هذا شئ غير محتمل وشعرت أني أريد حمايتها "بيلا". وأن "جوري" مرت بما يكفي. لا أريد أن أتصرف نيابة عنها، لكن أردت أن أترك الأمر مثل باب موارب على كل الاحتمالات.

المحرر: لقد قضيت العام الأخير في روما وغمرتِ نفسك بالأدب والثقافة الإيطالية، هل تعملين على عمل أدبي آخر؟ وهل شعرتِ بتأثير اللغة والثقافة الإيطالية في كتاباتك؟
لاهيري: لقد تأثرت كتاباتي حرفيا، فكل الكتابة التي كتبتها في هذا العام كانت بالإيطالية، أنا في تلك المرحلة المجنونة، المغامرة والتجريب بلغة أخرى. لا أعرف لماذا أفعل ذلك. لا أعرف ما المغزى. ولا أعرف أيضا أين سأتوقف، أو إذا كان سينتج هذا شيئا ذو قيمة. كل ما أعلمه إني جئت إلى ايطاليا منذ عام، وفي أيام قليلة تحولت مذكراتي التي احتفظ بها منذ سنوات وأسجلها باللغة الإنجليزية فجأة إلى الإيطالية، اللغة التي درستها لسنوات عديدة. بدأت بسرعة أصف ما أراه، وماذا أفعل. كما حولت عداد الأيام للإيطالية. مازلت أردس اللغة؛ لأني مازلت أرتكب العديد من الأخطاء. أتحدث بطلاقة ولكنها محدودة. أمامي الكثير والكثير لتعلمه، وشعرت أن الكتابة بها هي طريقة أخرى للدراسة. قد يكون هذا جنون، لأن الكثير يظنون أن عليك أولا أن تتعلم اللغة ثم تأتي الكتابة في المرحلة الأخيرة. ولكن في حالتي أحيانا أشعر بثقة زائدة عندما أكتب بالإيطالية أكثر من التحدث بها، لأني في الكتابة على الأقل يمكنني أن اتوقف لبرهة، واكتشف كلمات أخرى، ويمكنني إعادة بناء الجمل، أما في حالة التحدث، سأقول الجملة ثم سأفكر بها، أخطئ الحدث أو أختار الكلمة الخطأ، لكن يبقى التصحيح متأخرا للغاية لأني قلت ما قلته وانتهى الأمر.
ولكن ما أظنه هو إني وجدت الحرية في هذه المرحلة الغريبة التجريبية أو أيا كان عنوانها، وإني أحب حرية الكتابة بشكل منقوص. شعرت ما شعرته وكأني طفلة، حين كتبت القصص لأول مرة، فالتجربة الأولى ممتعة مثلا وضع الجمل على الورق والإثارة التي تبعت ذلك. أعتقد إني كناضجة مازلت أشعر بتلك الإثارة ولكن بشكل مختلف. الكتابة بلغة أخرى أمر ذليل، أمر صعب. كأني أقيد يدي اليمنى خلف ظهري وأكتب بيدي اليسرى. لقد تعرفت على مدى غموض الأمر وخطورته، إنه بطريقة ما خارج عن السيطرة. عندما أصف شئ ما بالإيطالية يكون لدي كم محدود من المصادر. فصندوق أدواتي مازال صغير. لا أملك سوى القليل من المفردات اللغوية. أملك ناصية قواعد اللغة ويمكنني أن أتحرك خلالها، ولكن هذا بالطبع ليس كاف. الأمر مختلف عن الكتابة بالإنجليزية، حيث يمكنني أن أختار من بين الخمس وعشرين كلمة مختلفة تصف السماء. لا أستطيع فعل ذلك بالإيطالية. ربما لدي كلمتين أو ثلاثة. لذلك فأن الكتابة بها أكثر مباشرة، لأن هناك نقاء غريب حوله، حتى لو كان منقوصا.

المحرر: هل تكتبين القصص بالإيطالية أيضا؟
لاهيري: كتبت واحدة فقط قد تصلح أن تكون قصة، لها بداية ووسط ونهاية، ثم كتبت سلسلة من أربع أو خمس صفحات لوصف شخصية أو لحظة.

المحرر: هل تتغير الشخصيات عندما تفكري بهم بالإيطالية أم إنهم نفس الشخصيات بنفس المحفزات؟
لاهيري: هذا هو أكثر شئ عاصف بالأمر. عرضت واحدة من قصصي على بعض الأصدقاء الإيطاليين، الذين قرأوا لي باللغة الإنجليزية، وجميعهم قالوا نفس الشئ، إني أبدو كاتبة مختلفة في الإيطالية. كل ما أعرفه هو إني أكتب القصة – وأن هذا شئ غريب، قصة غريبة لم أكتب مثلها أبدا بالإنجليزية. وهذا ما أثارني. وكأني أكتشف الغرفة الأخرى بأكملها. لا أعلم إذا حلمت هذا الحلم قبلا – أعتقد إنه حلم قديم – أن لديك بيت وفجأة تجد غرفة أخرى خلف المطبخ. تدرك أن مساحتك في الحياة زادت خمس وعشرين قدم إضافية. يعادل هذا، ذلك الحلم، وكأنه تحول إلى حقيقة، لأني دخلت تلك الغرفة ووجدتها رائعة. وكأنني أدرت ظهري للغة التي أعرفها والتي عبرت بها عن نفسي طوال حياتي، وفجأة أصبح لدي تلك المساحة الأخرى، وأن ما أكتبه يبدو مختلفا.
وقد جعلني هذا أفكر في اللغة بشكل عام. أفكر إذا كتب الكاتب بأكثر من لغة، ستعرف حقا مدى خصوصية وتعقيد اللغة. فالكيانات مختلفة تماما. اللغات مختلفة في روحها، حتى لو بدا إنها تعني نفس الشئ – يمكنك ترجمة شئ ويكون بنفس المعنى، ولكنه ذو خصوصية بسبب اللغة المصدر. والآن ككاتبة أشعر برعب من اللغة بشكل عام، من ماهيتها، وكينونتها، واعتقد أن ذلك التجريب في الكتابة جلب الكثير معه.

المحرر: هل يمكنك تخيل عمل الدراسة التي أجريتها بكلكتا ورود آيلاند هنا في ايطاليا؟

لاهيري: هل سأكتب بالإيطالية إذا ذهبت إلى كلكتا؟ لا أعتقد إني سأفعل. الأمر الغريب هو، إني عدت إلى أمريكا لمدة شهر. لقد ملأت دفتري في روما، فاشتريت دفتر جديد قبل سفري للولايات المتحدة، وفكرت إني سأكمل هذا، سأكتب على الأقل بعض الجمل بالإيطالية كل يوم. ولكني لم أكتب جملة واحدة. وعرفت إني عندما أعود إلى روما سأعاود للكتابة بالإيطالية. وإني فقط لا أستطيع ان أحقق ذلك هنا. أحبطني هذا، لأني الآن أشعر بالحب تجاه تلك اللغة ومستغرقة فيها. كما إني، تلقائيا، لم أقرأ أي شئ باللغة الإنجليزية منذ عام. في اعتقادي، أن الكتابة دائما هي رد فعل غريزي لفعل القراءة، هذا أمر حتمي. لقد قرأت كثيرا بالإيطالية، وبالطبع كل تلك القراءات دخلت إلى عقلي، وبدأت أفكر بالإيطالية، فأنا أقرأ وأحاول استيعاب تلك اللغة، مفردات لغوية جديدة، وإيقاعات مختلفة، طرق جديدة لقول شئ ما. وبمعرفة كم أنا حريصة على القراءة بالإيطالية، فقد شعرت أن الكتابة بالإنجليزية سيكون أمر متعلق بالفصام وغير مرضي لي بشكل كامل. سأشعر بذلك عندما أتوقف – لا أعرف متى سيحدث – ولكن عندما أتوقف وأبدأ في مزج قراءاتي الإيطالية بالإنجليزية، كما كانت، من المحتمل أن تتحول كتاباتي مرة أخرى. كتبت مقال لمجلة نيويورك تايمز منذ فترة حول تركيب الجمل، يوضح أني إذا قرأت كطفل، فسينعكس هذا على كتاباتي. أشعر أن هذا يحدث مرة أخرى معي الآن. لذلك أرى أن الأمر مشوق. وأريد ان أنفتح عليه. لا أريد أن أفكر به كثيرا. ومهما كان ما أسطره، لا أريد له أن يكون تحت سيطرتي. وليس لدي أي توقعات محددة.

عن ذا نيويوركر
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015

أشعر بالكمال


منذ أن انتهت جومبا لاهيري من كتابة "الأرض المنخفضة"، التي كانت تتخيل أحداثها قبل كتابة أي من كتبها الثلاثة المنشورة، 

نرى إنها قد تكون بالفعل متممة لحلقة سردية لها أسلوبها المتفرد. تقول لاهيري، التي نشرت روايتها الأخيرة في سبتمبر 2013، 

"يتراءى لي أن الرواية تسير في اتجاه مختلف بطريقة ما، إنها الرواية التي كنت أتوق لكتابتها منذ البداية".

كل الكتب الثلاثة – مجموعتان قصصيتان "مترجم الأوجاع" و"أرض غريبة"، ورواية "السمي" – كانوا نتاج تجربة مهاجرين من

 جنوب شرق آسيا إلى شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية. يغطي الكتاب الرابع، رواية "الأرض المنخفضة"، نفس المساحة 

لكن بأساليب مختلفة. تحكي عن أخوان هنديان يعيشان في كلكتا ثم ينتقل احدهما إلى الولايات المتحدة، تدور الأحداث عن شبابهما

 أثناء الانقسام الهندي السياسي في ستينات القرن الماضي، حتى الوقت الحاضر في أمريكا. بالكاد يكون الانتقال من أمة لأخرى أمر

 يسيرا. في "الأرض المنخفضة"، تبدو شخصيات لاهيري مصممة على أن تجعل الأمر أكثر صعوبة. فالرواية حققت فكرتها 

الرئيسية المتماسكة عن التفكك حتى تطرفها المنطقي.

لاهيري نفسها تعيش حياة مفككة قليلا. مستقرة حاليا في روما. حازت على جائزة البوليتزر الأمريكية المعتبرة عن مجموعتها 

القصصية الأولى "مترجم الأوجاع". ووصلت إلى أرفع الجوائز الأدبية في انجلترا وهي قائمة البوكر القصيرة عن روايتها 

الأخيرة 

"الأرض المنخفضة". رغم مولدها بلندن، لكنها قضت معظم حياتها بالولايات المتحدة، وقالت إنها مثل العديد من شخصياتها: 

"الشعور إني أمريكية أو اعتبار نفسي مواطنة أمريكية، كان أمرا شاقا بالنسبة لي في معظم فترات حياتي".

لذلك فإن "الأرض المنخفضة" تبدو بطرق عديدة أوج تجربة مهنية طويلة عن التفكك. إنه الكتاب الأقل اهتماما بالحياة الأمريكية من

 بين جميع كتابها، حيث أن شخصياتها مشغولين بالتأمل بدرجة استثنائية حتى للاهيري نفسها، مستغرقين في أحداث وقعت منذ 

أعوام مضت.

المحرر: أود أن أبدا من إقامتك في روما، عملك يدور في مساحة جغرافية هائلة، اتساءل إذا كنت تري عملك الآن في ضوء وجودك في دولة جديدة تماما.

لاهيري: حسنا، يبدو أن الرواية تسير في اتجاه مختلف عن ما يمكن اخبارك به. ولكني عندما انتهيت من الأرض المنخفضة، شعرت إني في نهاية مرحلة محددة من حياتي المهنية. إذا كان بإمكاني إدعاء معرفة هذا بدون كتابة عمل جديد يسمح لي بالمقارنة. لكني أرى أن هذه الرواية هي ما كنت أود كتابته منذ فترة طويلة، وبدأت بالفعل في تخيل أحداثها منذ عام 1997، قبل أن أنشر أيا من كتبي، وتقريبا بعد كتابة واحد منهم.
شعرت أنه الكتاب الذي انتظرت كتابته منذ البداية. وبعد أن فعلتها أخيرا، شعرت بالكمال، بشكل لم أشعر به من قبل حتى بعد انتهائي من أي من كتبي، من ناحية موضوعات تلك الكتب وشخصياتها ومن أين اتوا، حرفيا ومجازيا. ما أريد قوله أن فكرة الاغتراب مستمرة في جذبي للغاية، مع الأخذ في الاعتبار إني أعيش الآن في بلد كأجنبية بشكل كامل أكثر من أي وقت مضى. ولازلت مهتمة بتلك التجربة. ولكن الآن، كل المتغيرات تبدلت بالنسبة لي من حيث ما يحيط بي بشكل يومي.

المحرر: هناك بعض الاستعارات التي يربطها القراء والنقاد بكتبك ضمن ما اطلقتِ عليه مرحلتك الأولى، تلك المرحلة التي بدأت بمترجم الأوجاع وختمت بالأرض المنخفضة. في اعتقادك ما المشترك بين كتب تلك المرحلة؟ وهل ترين أن بداية مرحلة جديدة يتطلب بالضرورة ترك أي عناصر للحبكة وراءك؟

لاهيري: حسنا، أنا لا أعرف ماذا يقول النقاد. ولكني أرى أن العمل نوع ما تجربة ثنائية الثقافة، تجربة هجرة شخصيات من الهند، 

إلى الولايات المتحدة في وقت محدد وهو نهاية الستينات وبداية السبعينات، وفي مكان محدد وهو الشمال الشرقي. لذلك أعتقد أن 

كتبي الأربعة يشتركون في هذا سويا. فجميعهم ينظروا ويعيدوا النظر إلى نموذج الهجرة، من خلال ما يفعله الشخصيات. هذا أمر 

لم أعد أهتم باكتشافه الآن. أشعر إني أريد النظر إلى مكان آخر، وإلى شيء مختلف.

المحرر: الأرض المنخفضة ممتدة زمنيا، وتغطي مساحة شاسعة في كل الاتجاهات، كما إنها تختلف عن القصة القصيرة، ذلك النموذج الذي يسرد عادة فترة مميزة من الوقت. أي نموذج يعد أكثر طبيعية؟ وهل الهدف من كتابة أي رواية أن تكون ممتدة زمنيا مثل روايتك الأرض المنخفضة؟

لاهيري: لا أعتقد ذلك أبدا. أرى أن الرواية يمكنها أن تكون على أي صورة ويمكنها أن تكون انسيابية للغاية، ولديها تركيز مؤقت كثيف وهذا يجذبني. وأحب أن أقرأ الروايات التي تركز على حدث أو زمن محدد للغاية. أما الأرض المنخفضة، فإنها كانت في حاجة للامتداد زمنيا لعدة أسباب. اعتقد إنها نتيجة مباشرة لمجموعتي القصصية السابقة "أرض غريبة"، التي كانت ممتدة لفترة زمنية أطول، كنت أشعر خلالها إني في حاجة لاكتشاف طرق لعبور الزمن بسرعة.

المحرر: بمعرفة إن فكرة روايتك الأخيرة راودتك منذ فترة طويلة، هل كنت بحاجة إلى كتابة "أرض غريبة" لتستعدي لكتابة "الأرض المنخفضة"؟

لاهيري: حسنا، لا أعرف. لا يمكنني قول هذا. عندما كتبت تلك المجموعة القصصية، كتبتها فحسب. لم أفكر إنها مادة تمهيدية لروايتي التالية. لم أكن أعرف من الأساس إني سأكتبها. راودتني فكرتها لعقد من الزمن، ولكني لم أكن أعرف أن بعد انتهائي من "أرض غريبة" إني سأعود إلى الفكرة التي تحولت مؤخرا للأرض المنخفضة. لقد كانت مجرد فكرة رئيسية. بالنسبة لي، عندما انخرط في العمل، لا أفكر فيما سيتبعه أو ما سبقه. أعني إني أغرق تماما في العمل وأواجه تحديات العمل قبل أن أفكر به، وأشعر أن هذا هو كل ما علي التفكير به. لذلك لا أملك إجابة على ذلك التساؤل.

المحرر: حصولك على جائزة البوليتزر شيء استثنائي – تلك الجائزة التي تعبر عن توجهات أمريكية – والآن وصلت لقائمة جائزة البوكر، الجائزة المخصصة للكتاب من دول الكومنولث. كيف تصنفين نفسك وفقا لجنسيتك وهل تفعلي؟

لاهيري: لا أعرف. لدي جوازان سفر، لأن كان علي أن أحمل على الأقل واحدا، ولا أعرف حقا كيف أعرَف نفسي. وكلما كبرت، 

شعرت إني محظوظة للغاية لأني حاصلة على جنسية مزدوجة وفقا للأوراق الرسمية. فلقد كان الشعور إني أمريكية أو اعتبار 

نفسي مواطنة أمريكية أمرا شاقا بالنسبة لي في معظم فترات حياتي. إنه موضوع معقد يتطلب محادثة طويلة. وهذه إجابة مختصرة.

لكني في نفس الوقت لم أشعر أبدا إني من جنوب الهند، أنا لم أعش هناك قط. أشعر إني مجموعة هوامش لهويات متعددة، وليس هوية واحدة أبدا. وهو أمر لم يعد يعنيني بشكل شخصي الآن. لكني أعتقد بشكل ما أن مسألة الهوية والنشأة، أو كون المرء لديه هوية محددة أو غير محددة، يمكننا أن نطلق عليها هوية منقسمة، لم تعد تشغلني على المستوى الشخصي والعملي. غير إني مازلت لا أعرف – رغم أنه امرا يسيرا الآن أن أقول عن نفسي إني أمريكية، لأني اعتقد أن أمريكا تطورت وفكرة أني أمريكية تطورت معها كذلك. أعتقد أن أثناء سنوات نضجي العصيبة، كان واضحا لي تماما إني لست أمريكية الهوية، لأني لم أك أُعتبر مثلهم، وقد نشأت على ألا أكون، لذلك كان الوضع كله بمثابة عبء.

المحرر: هل شعرتِ بمسئولية زائدة – وإنك متحدثة رسمية بشكل ما؟ لأنك ربما تكوني الكاتبة الأمريكية – الهندية الوحيدة التي لاقت أعمالها رواجا؟

لاهيري: لا. أعني أن من الجنون أن يكون الأديب متحدث رسمي عن أي شيء بوجه عام. لم أفكر مطلقا هكذا. انا أحاول أن أعبر عن تجربة محددة لشخصيات محددة، وهذا كل ما أحاول تجريبه. لم أحاول كثيرا أن أفكر في تمثيل ثقافة ما، لأنه مستحيل، وسيعرضني للنقد. كما إن هذا لا يهمني فحسب. لم أفكر في العالم على هذا النحو ولم أتخيله كذلك أثناء عملي. أنا غير قادرة على التفكير في تلك الشروط العامة.

المحرر: هناك نقاش مستمر في صحف الأدب الأمريكي حول نقاط القوة والضعف فيما يسمى الشخصيات المحببة. وبعض تلك المناقشات تستبعد شخصيات من روايتك الأخيرة. ما رأيك في حاجة الشخصية لجوانب محببة من عدمه لتجذب القاريء؟

لاهيري: لا أعتقد في هذا. فأنا أكتب عن الشخصيات التي تجذبني بشكل خاص. ولا أرى كتاباتي مادة للتسلية. أنا لا أقرأ الكتب للتسلية والمتعة. أنا أقرأها لتعمق فهمي للظروف الإنسانية. أعتقد أن بعض الشخصيات معقدة للغاية. وأن البشر مخلوقات مركبة، لذلك لا أفكر على هذا النحو، ولن أفعل.

المحرر: هل تعتقدين أن لكتاباتك حس فكاهي؟

لاهيري: لا، ليس كثيرا.

المحرر: هل تتضمن أعمالك القادمة بعضا منها؟

لاهيري: لا يمكنني التأكيد. فأنا كقارئة أحب الأعمال الكئيبة. ربما لأن هذا ما أنا عليه. أعتقد أن روعة الأدب تكمن في إمكانية وجود العديد من الطرق المختلفة للتعبير، من الأخف والأكثر فكاهة حتى الأعمال الدرامية السوداوية. فالمساحة الخيالية واسعة تماما، وهذا ما شدني.

عن مجلة صالون
نُشر في أخبار الأدب - أبريل 2015