Wednesday, April 8, 2015

وجه العنزة


عرض لكتاب بعد الجنازة، لديانا آتهيل، فبراير ١٩٨٦
د. أهداف سويف
 اللندن ريفيو أوف بوكس في ٣ يوليو ١٩٨٦

النص بالعربية: أهداف سويف وأميمة صبحي

في عام ١٩٦٤، قامت دار أندريه دويتش بنشر رواية وجيه غالي الرائعة "بيرة في نادي البلياردو، فجذبت الاهتمام ونالت نقدا وعروضا متحمسة. وهذا ما حدث أيضا عند صدور طبعتها الثانية في سلسلة Penguin New Writers في عام ١٩٦٨. وفي مساء ٢٦ ديسمبر من العام نفسه كتب غالي في يومياته:
"سأنتحر الليلة. لقد آن الأوان. أنا بالطبع ثمل. لو لم أكن لكان القرار صعبا جدا جدا.(أعترف بأن هذه كتابة ثملة). ولكن ماذا بوسعي أن أفعل يا أعزائي؟ يا من أحبهم؟ لا شيء، فعلا لا شيء.  

ابتلع ٢٦ قرصا منوما اختلسها من علبة دواء أحد الأصدقاء:
واللحظة الأكثر درامية في حياتي  اللحظة الحقيقية الوحيدة  لا ترقى إلى ما توقعت. لقد ابتلعت موتي بالفعل، ويمكنني تقيؤه إن أردت. ولكن، وبكل الصدق والإخلاص: حقيقة لا أريد. هذا من دواعي سروري. لا أقوم بهذا الفعل بحزن أو تعاسة، بل بالعكس، في سعادة وحتى في (حالة وكلمة طالما أحببتهما) سكينة، نعم في سكينة.

كان من حق وجيه غالي تماما أن يحب السكينة التي راوغته طوال الأربعين عاما التي عاشها. وُلِد غالي مسيحيا  في مصر ذات الأغلبية المسلمة، وفي طبقة اجتماعية ثرية في زمن ثورة اشتراكية، وتعلم في مدرسة إنجليزية في وقت صحوة قومية - أضف إلى ذلك أنه كان الفرد الوحيد المعدم في أسرة شديدة الثراء.

رام، البطل في رواية "بيرة في نادي البلياردو"، يشارك مؤلفه في خلفيته وسيرته الذاتية. شخصية مليئة بالتناقضات: شاب فقير يعيش حياة مرفهة على حساب عائلته:“كون خالاتي ميسورات الحال جداً وأمي ليست كذلك لم يخطر لي على بال. كنت أطفو على سطح ذلك التيار الثري، أرتدي ملابس فاخرة مثل بقية الأطفال وأذهب إلى نفس المدرسة. منغمس في الثقافة الإنجليزية ويشارك في أنشطة معادية لبريطانيا. يتظاهر ضد الاحتلال  أهتف الجلاء! الجلاء! مع الجموع، دون أن أفهم بدقة أهمية الجلاء"– وتتطور المظاهرات إلى رحلات للسويس للإشتباك مع القوات البريطانية المتمركزة هناك. يعتمد مادياً على أسرته ويمقت الوسائل التي كونوا بها ثروتهم، يجيب، مثلا، على صديقة قديمة للأسرة تسأله إن كان قد دخل عالم الأعمال بأنه اكتشف طريقة مبتكرة لاستغلال الفلاح؛ كل ما أحتاج إليه الآن هو رأس المال. تحذره السيدة: “لا تمزح في هذه الأمور يا حبيبي، وهو بالفعل لا يستطيع التمادي في المزاح لأن الأسرة والتربية غرستا فيه إدمان الحياة المرفهة بما فيها من ملابس ماهرة التفصيل، ونبيذ جيد، وبعض المقامرة. ومع ذلك حين تأتي الثورة في ١٩٥٢ يندمج فيها بكل قلبي وبتلقائية تامة، بدون أي تعصب ولا هدف منظور .. الإشتراكية، الحرية، الديمقراطية.. نعم، هذا ما كانته الثورة المصرية. كل ما نأمله من خير ستقوم به الثورة". وفي نفس الوقت، كان تعليمه في إحدى المدارس الإنجليزية بالقاهرة، وقراءاته الواسعة (وهنا يكمن اختلافه الأساسي عن طبقته الاجتماعية) يؤديان لشعوره بعدم الاستقرار، بالرغبة في الحركة.

كان عالم الشتويات ذات الثلج والجليد، عالم الأسقف الحمراء المائلة، قد بدأ ينادينا. عالم المثقفين وقطارات الأنفاق والشوارع المرصوفة بالبلاط والريف الأخضر، ذلك العالم الذي لم نكن قد رأيناه بعد كان يشير لنا أن نأتي. العالم الذي يسكن فيه الطلاب في غرف ذات طابع ومسميات خاصة، ويتصادقون على فتيات الآلات الكاتبة ويشربون البيرة في أكواب ضخمة وينشدون الأغاني كان يصيح لنا أن تعالوا. عالم تخيُّلي كامل. مزيج من كل مدن أوروبا؛ تتداخل فيه حانات بريطانيا ببارات باريس ويؤدي شارع بيكاديللي فيه إلى الشانزليزيه؛ فيه عمال المناجم شيوعيون ورجال البوليس فاشيون؛ فيه شئ إسمه البرجوازية وشخص يُطلق عليه صاحبة البيت؛ فيه فنادق الـجراند هوتيلومصانع سيارات الفيات ومصارعة الثيران؛ فيه تعرف الأمريكي من شكله المختلف والأناركيون يطلقون لحاهم وتجد شيئا إسمه اليسار؛ وفيه تعيش أسرة كريستوفر إشروود الألمانية ويحظى المواطن السويدي بأعلى مستوى معيشي ويسكن الشعراء في غرف فوق الأسطح وتوجد حمامات سباحة بداخل البيوت والمباني”.

هذا العالم الذي يصفه رام هو العالم الذي تخيلته أعداد كبيرة من المثقفين المصريين أصحاب التعليم الأجنبي، فتاقت إليه وبحثت عنه منذ بدء القرن العشرين وحتى عام ١٩٥٦. 

لم تكن حرب السويس وحدها هي ما نزع الغمامة عن عيني رام، هي في الواقع أكملت ما بدأته ساعات الانتظار في وزارة الداخلية البريطانية: 
كنا نقول هذا ليس كريكيت (أى ليس من أخلاق الرياضة)، ولا ندخن ونحن نرتدي زي المدرسة لأننا وَعَدنا ألا نفعل. زرعوا فينا توقع النزاهة من الإنجليز، وكانت هذه ظاهرة غريبة فينا، أن نتوقع النزاهة من الإنجليز في الوقت الذي بَعُدَت فيه تصرفاتهم تماما عن النزاهة. وربما - في احتجاجاتنا اللاحقة ضدهم - كان يكمن الاعتقاد بأنهم لو علموا أن ما يفعلونه ليس من أخلاق الرياضة في شئ لكفوا عنه. فبالرغم من كل الكتب التي قرأناها، والتي تبين - المرة تلو المرة - خبث وقسوة السياسة الخارجية لبريطانيا، كانت تجربة حرب السويس هي التي أقنعتنا في النهاية. وبالطبع فشعوب إفريقيا وآسيا مرت بخبرات السويس الخاصة بها من قبلنا، وأكثر من مرة. 

لم يحزم رام أمتعته ويعود إلى الوطن كما فعل الكثيرون، ظل في لندن وانضم إلى الحزب الشيوعي: إذا قرأ شخص كمية ضخمة من الأدب .. وكان شخصاً منصفاً وحنوناً ويهمه أمر البشر من جميع الأجناس، ولديه الوقت الكافي للتأمل، كما أنه صادق ومخلص، فإن هناك أمران ممكن أن يحدثا له: ينضم إلى الحزب الشيوعي ثم يتركه ويظل يشكو من نواقصه، أو يُجَنّ. ترك رام الحزب، ولم يشكُ من نواقصه، وعاد إلى مصر آملا أنه يستطيع أن يشارك بعمل مفيد. أن أقوم بالتدريس أو شيء مشابه، أو حتى أساعد بشكل ما في القرى". لكنه يجد أن الحياة هنا لم تتغير بالمرة .. أعني كيف أذهب للعمل في الظروف الصعبة للقرى بينما هو يتنقل في يخت فاروق الذي تتكلف صيانته فقط الملايين؟ وكل عمليات التأميم هذه مثيرة للضحك .. فالمال يذهب لذلك الجيش عديم الفائدة. حتى سد أسوان، عندما يتم بناؤه سيكون عددنا قد ازداد عشرة ملايين".

ينضم رام إلى منظمة سرية. مهمته أن يحصل على صور لضحايا التعذيب من معسكرات الإعتقال ويرسلها إلى الصحف القومية. الصحف، خاضعة للرقابة، لا تنشر الصور أبدا، ويمر رام بلحظة تنوير مرعبة يدرك فيها أن "بعض الصور لن تكون بهذه الوحشية لو لم نكن ندفع فيها مالا

في عام ١٩٥٨ يستسلم رام ويتزوج الشابة الجميلة الثرية، ديدي نخلة، التي كانت دائما تحبه. ومعها يجد "الطمأنينة التي بالكاد يصادفها أحد مثلي أو حتى يعرف بوجودها. يريدها، يقول، أن تضفي على بيتهم السكينة.

وفي عام ١٩٥٨، غادر مؤلف رام مصر للمرة الثانية، وفي الأغلب أن عائلته، بوضعها الاجتماعي وصِلاتها، تلقت معلومات أنه على وشك أن يُقبض عليه بسبب نشاطه السياسي. جاء إلى انجلترا التي - بالرغم من تحفظاته السياسية - ظلت البلد الوحيد، إلى جانب مصر - الذي يتصور الحياة فيه، البلد الوحيد التي تصور أنه يمكنه أن يشعر فيه بالانتماء. لكنه - حين انتهت صلاحية جواز سفره - وجد نفسه في ورطة، فقد رفضت السلطات المصرية  كما تفعل في مثل هذه الحالات  أن تجدد له الجواز وأعطوهكارنيها يصلح فقط للعودة إلى مصر، وفي مصر كان على الأرجح سيعتقل.

اختار غالي ألا يعود، ورفضت السلطات البريطانية  كما تفعل أيضا في مثل هذه الحالات  أن تسمح له بالبقاء في بريطانيا. أما الألمان، الذين كانوا في أوج برنامج إعادة إعمار بلادهم بعد الحرب، فلم يدققوا. وجد غالي عملا في ميناء هامبرج وبدأ في كتابة روايته. لكنه لم يرتح في التعامل مع الألمان؛ لم يجد مكانا للـقفش والسخرية المصرية، ولا للفهلوة والابتكار، ولا لمفهوم الجدعنة: "في الشتاء الذي أنهى فيه روايته كان يعيش في غرفة بدروم بلا تدفئة، إلى أن اكتشف وسيلة تمكنه من مد سلك كهرباء من المنزل المجاور إلى غرفته .. والمدفاة التي ارتجلها - وكان يفتخر بها - كانت لفة عنكبوتية من السلك ممدودة بين تكوينين بسيطين من الطوب. وبعد أن نجح في بيع روايته دق الباب على جيرانه وأخبرهم بما فعل وعرض عليهم أن يدفع ثمن الكهرباء فاستدعوا الشرطة". في عام ١٩٦١، دخل في مراسلات مع دار أندريه دويتش للنشر. ستصبح ديانا آتهيل المحررة المسؤولة عن روايته في الدار، وسيستكمل كتابها "بعد الجنازة" قصة وجيه غالي بدءا من حضوره حفلا في بيتها في عام ١٩٦٣ حيث كان في زيارة قصيرة إلى لندن.

أسلوب ونغمة آتهيل واضحان من الصفحة الأولى: تنظر للمؤلف من عليّ من قبل أن تلتقيه: صديقٌ ألماني وصفه بأنه كائن متواضع ورقيق كالغزال .. كنت منحازة للأجانب المضطهدين، وبالتالي فإن أجنبي مضطهد يشبه الغزال، ويتغاضى عن المعاناة ليرى الأمور بسخرية وفطنة كما ظهر في كتابه، سيعجبني طبعا.. سيكون صديقا. وسرعان ما نجد آتهيل تناظر نفسها حول ما إذا كانت ستقع في هوى هذا الصديق الجديد أم لا: بالطبع لن أحب وجه العنزة الصغير هذا أكثر من حبي للوك"  حبيبها القاطن معها  لكن الوقوع في الغرام لا علاقة له بالحب". المناظرة تنتهي على يد وجه العنزة الصغير الذي استجاب بدفئ لصداقتي .. وأوضح بما لا لبس فيه أنه لا يريد أكثر من ذلك".   

خلال العامين التاليين زادت حالة غالي النفسية واستقراره العاطفي اضطرابا وهشاشة، وكان مقتنعا أن هذا بسبب حياته بألمانيا، وأنه إذا "استطعت أن أبقى في لندن لثلاثة أو أربعة أشهر فبالتأكيد سأجد طريقة ما للتعامل مع موضوع تصريح العمل. سأجد عملا وسأكون بخير. هذا المكان يقتلني". تحصل له آتهيل على تأشيرة دخول وتسجل بدقة إنها ورطت نفسها "أكثر مما كنت أتوقع، لكني اعترف أنني أنا التي ورطت نفسي. فـديدي - الإسم الذي أطلقته على غالي  حين شعر أنه يستطيع أن يثق بي، أخذ بشغف ما عرضته، هو لم يطالبني بشيء، فقط قَبِل ما أردت أن أعطيه". لم تتضمن تأشيرة الدخول حق العمل، فاضطر غالي أن يقنع بـأعمال متناثرة   مرة في الترجمة، ومرة في النقاشة، ومرة كجليس أطفال”- أعمال يؤجر عليها بدون علم الحكومة

وبالطبع يجد هذا النوع من الوظائف محبطة وصعبة، وأجرها لا يكفي ليعيش عليه، وبالطبع لا يكفي للشراب والمقامرة اللذان صارا لزاما. لم يمض وقت طويل حتى أصبح مدينا يشعر بالعار. أن يعيش المرء على حساب الأسرة والأصدقاء كان سهلا نسبيا  في مصر: تخلف فاتورة في جروبي أو في النادي ويسدد أحدهم الحساب بهدوء لاحقا. أما هنا، في انجلترا، فكان من الضروري أن تطلب المال صراحة، والكل يعرف أن لا أمل حقيقي في إعادته. ما بقي من احترام غالي لنفسه كان في تدني مستمر. إحساسه الحاد بوضعه المالي المهين، ورغبته - حتى النهاية - في أن يكون الـجنتلمان الحقيقي الذي تربى على صورته يظهران بوضوح في الحسابات الدقيقة التي ظل يدونها، وفي الرغبة الأخيرة التي صرح بها: أن أي مبلغ مالي تأتي به كتاباته بعد موته يستعمل لتسوية ديونه. وكون هذه الديون لم تصل إلى الألف جنيه يزيد من مأساوية وضعه. 

بعد حرب ١٩٦٧يقرر غالي زيارة اسرائيل. لا توضح مذكراته سوى أنه اتخذ القرار و- يا للعجب - مُنِح تأشيرة الدخول، وهناك عاصفة من علامات التعجب بعد هذا الخبر، وشرح موجز: ستكون تقليعة ذكية: مصري يجري أحاديث صحفية مع إسرئيليين". باع فكرته لجريدة التايمز، فتكفلت بمصاريف الرحلة كمبلغ مقدم من أجر المقالات التي سيكتبها. كانت المقالات (وكانوا مقالين) التي كتبها عقلانية ومتوازنة، بل كانت أكثر توازنا من أن ترضى أياً من الطرفين، وأُغلِق الباب إلى الأبد أمام أي إمكانية للعودة إلى الوطن؛ فزيارة اسرائيل - أو حتى دخول سفارتها في أي مكان بالعالم - خيانة وفقا لقانون وقت الحرب المصري، وتستوجب عقوبة الإعدام. كما أنها عمل مضاد تماما لمشاعر الناس في بلد يعاني آثار هزيمة كارثية. هذه الزيارة هي الشيء الوحيد الذي بقى من وجيه غالي في ذاكرة المصريين القليلين جدا الذين لا زالوا يذكرونه.

وجد غالي صعوبة بالغة في كتابة المقالين. ولا بد أنه رأى أنه لن يكمل روايته الثانية، ولن يحصل على تصريح عمل، ولن يستطيع أن يكسب قوت يومه. سيغرق أكثر وأكثر في الديون. سيبقى في حالة ذُل وهزيمة، ولن يستطيع أبدا العودة إلى الوطن. هو الآن في عامه الأربعين ولا يرى لنفسه طريقا.  

عندما قرأت "بعد الجنازة" تحيرت: لماذا كتبت ديانا آتهيل هذا الكتاب؟ حسب ما نراه هنا، فإن ديدي ببساطة لا يستحق أن يُكتَب عنه كتاب - حتى وإن كان كتابا سيئا. تعرض الكاتبة أمامنا سكيراً زنّانا، أنانياً يعيش على حساب من حوله، يجرحهم ويهينهم، ويضجرهم ويضجرنا بلا حدود. والشيء الأكثر بؤسا في هذا الكتاب البائس هو أنه، وبالرغم من إصرار آتهيل على سحر غالي وذكائه وكياسته وخفة دمه ويقظته، لا يُظهِر هذه الصفات أبدا. فإن حاولنا تقييم حياته القصيرة وجب علينا أن نشيح بوجوهنا عن شخصية ديدي وننظر إلى رام - الصورة الشخصية التي رسمها غالي في روايته (التي لن تجدها في الأسواق اليوم) بيرة في نادي البلياردو.

لماذا اختارت آتهيل إخفاء هوية صديقها؟ ولماذا اختارت إسم الدلع ديدي  إسم الفتاة الثرية التي يتزوجها رام بنهاية الرواية  ليكون إسمه المستعار؟ أرى في هذا استصغارا له. هي لم تأخذ الرجل بجدية أبدا، ونرى هذا في تكرار جُمَل مثل "ديدي الصغير المسكين"، وهذا الكائن الصغير المسكين المخبول"، وكان يستحق أن أضربه على مؤخرته، ولا بد أنه خبر هذا الاستصغار خلال سنواته معها. ربما كان لكل هذا علاقة بغريزة الأمومة المحبطة التي تسهب آتهيل في تحليلها - والتي لا بد أن غالي وجدها تضعفه أكثر وأكثر. تتبنى آتهيل حالته فيسكن في غرفة للإيجار في بيتها. يريد أن يدفع إيجارا لكنه لا يستطيع فتضاف قيمة الإيجار إلى قائمة مديونياته. لم يطمئن أبدا لزوال تهديدها بأن تقع في غرامه، لكن آتهيل كانت قد رضيت بدور الأم. 

لا نستطيع أن نلوم عليها رصانتها/ثباتها الإنجليزي البرجوازي، لكننا نستطيع أن نرى تأثير تصرفاتها واستجاباتها على ذلك الشرقي المتقلب المضطرب الموحود الذي وضعه حظه تحت رعايتها. حين تطلب آتهيل من ديدي، بعد سنتين، أن يرحل (فستستأجر له غرفة في بيت آخر) تتضح حقيقة الموقف وتتحصل على الاعتراف الذي طالما انتظرته: "وقف وأشاح بوجهه بعيدا، ورفع ذقنه عاليا، وعيناه محجوبتان  لحظة انتزعها بعنف من نفسه ليُبدي تماسكا متكبرا حاد العاطفية، ثم، وبدون إنذار، جرى متخبطاً عبر الغرفة ورمى بذراعيه حولي وبرأسه على كتفي وأخذ ينشج .. كان طفلاً في الثامنة يبكي في حضني. ظهرت حقيقة الموقف. وتتعامل آتهيل مع هذا بأن تتجه إلى المطبخ لتعمل لهما فنجانين من الشاي بينما ينتظر هو في ألفة واستسلام، وقد انهارت خطوط دفاعه تماما.

من المحتمل بالطبع أن يكون التزام ديدي بالعواطف هو الذي دفع راعيته أكثر وأكثر إلى ذلك الإتزان المتبلد. عائلة ديدي ناس يعبرون عن عواطفهم بقوة .. فالمشاعر القوية تبَرَر بقوتها. أدركت آتهيل تدريجيا أن تحكمه في مشاعره ما هو إلا تحايل من أجل الاتزان. هو يُقَدِّر التحكم في النفس، لكنه كثيرا ما يترك نفسه لقوة الجاذبية في ارتياح متحدّي. ولكن، ألم يكن هذا جزءاً مما جذبها إليه أصلاً؟ بالرغم من محبتها في نفسه (في رسالته الأخيرة لها قال إنها الشخص الذي يحبه أكثر”)، لنا أن نتصور كم عانى غالي مما استشعره من ثقل في شخصية آتهيل. وبما أنه - كما تؤكد هي - كان يجدها مُنَفِّرَة جسدياً، لنا أن نتصور أيضا كم استبشع تلك الضبابية العكرة في مشاعرها الأمومية: بما أنني لم أنجب أبداً فلست متأكدة إلى أي مدى قد تُلَوِّن المشاعر الجنسية الأمومة، ولكن، وبما أنني أرى الآن مدى تداخل مشاعر الأمومة في علاقاتي الجنسية مع أى شاب أنجذب إليه، فأعتقد أنها كانت لتؤثر فيها بقوة  أى أنني كان عندي الاستعداد لأكون جوكاستا حقيقية لو سنحت لي الفرصة. 

وقد سنحت الفرصة أخيرا: وجد ديدي الثمل طريقه لمخدع ديانا الثملة. وتحملته بغيرية لاهية، كريمة ومسيطرة، أُمٌ إلى النهاية: حَجَّم السُكْر نطاق وعيي، لكنه لم يفقدني إياه. وحين وَسَّعَت الممارسة تدريجيا نطاق ما أدركه، كنت أنا التي أدرك، وعرفت أنه سيكون من الخسارة أن نُفسِد ما يحدث بأن نتركه يستمر طويلاً. الحنان سيطفؤه ضجر جسدي الغير مستثار، فعليّ الآن إنهاء وصلة ممارسة الحب هذه بتصنع بلوغ قمة اللذه ومساعدة ديدي في الوصول إلى ذروته". لم تتكرر الواقعة أبدا. ولكن - لماذا حدثت؟ ولماذا انتهى ديدي في فراش راعيته بعد أن تجنبه بأدب لمدة أربعة سنوات؟ وما هو موقع هذا الفعل في عملية مسيرة الذات التي مشى فيها؟ لا تتعامل آتهيل مع هذه الأسئلة، بالرغم من أنها قرأت تلك الفقرات في مذكراته التي يصف فيها نفورة الجسدي منها فقرات تعرضها علينا بحماس:

لقد بدأت أكرهها. أجدها لا تطاق .. ردود أفعالي ناحية ديانا يشعلها نفوري الجسدي من ديانا. أجد من شبه المستحيل أن أعيش في بيت واحد مع شخص وجوده الجسدي يدفع بجسدي للإنكماش نفوراً، ولذلك أجدني أبغض كل ما تفعله أو تقوله أو تكتبه. أحاول جاهدا أن أفهم بشاعة هذا الموقف الذي أتخذه، وفي الحقيقة لا أستطيع تفسيره إلا بقبول حقيقة أني مريض، مُعتَل، غير سوي.

أجلس في غرفتي أشاهد برنامجا غبيا في التلفزيون، غاضب على نفسي لأني لا أطفؤه وأجلس للعمل .. ومن غرفتها أسمع الآلة الكاتبة: تك تك تك تك تك، أقول في نفسي ها هي تطقطق تلك الزبالة التي لا قيمة لها - تغرف جملة غبية مملة بعد جملة غبية مملة، وتفكر - لا، تتظاهر - بأن هذه كتابة. ويمسك بي مزاج ردئ.  

ثم أتذكر كل ما فعلته ولا تزال تفعله من أجلي، فأدق بابها: فنجان من الشاي يا صديقتي؟ هي مستغرقة تماما (تتظاهر) فبالكاد تسمعني. تنهي جملة، تنظر إليَ  هيلا تعي تماما ما حولها لأنها غارقة تماما في فنها. ثم: نعم، فنجان من الشاي ياصديقي‘. بعدها أعود إلى غرفتي. أنا فعلا وغد، أهمس مكررا، أنا فعلا وغد.

ربما كان وغداً، لكنه كان كاتباً. وكان على حق في تقديره السلبي لأسلوب كتابة محررته ديانا آتهيل. ربما كان في كل هذه القصة ما يستحق المعاناة لو أن التركيز على جنوح ديدي أنتج كتابا جيدا. ولكن، وبالرغم من الفحص الذاتي الجارح (سطحيا)، وبالرغم من الإصرار على تراكم التفاصيل، فإن "بعد الجنازة" يمكن أن يصنف كتدريب على كيف لا تكتب السرد: "بعد أن جلسنا لتناول وجبتنا بفترة قليلة قال أحدهم شيئا مثيرا للانتباه، له علاقة مباشرة بخبرة المتحدث، وتغير وجه العنزة المتهكم في الحال. بدت عيناه وكأنها فعلا أضيئت. حلت الحيوية محل الاكتئاب. بدأ يصف شيئا تناغم مع ما قيل، وكان فكاهيا فأضحكنا”. تقرأ الكتاب فتجد تلخيصا مليئا بالكليشيهات، تلخيص يبسط الأحداث والمشاعر. وضع  ديدي في الخارج يعَرَّف بخفة سريعة بأنعبد الناصر قام بنفيه وهذا بمثابة إسدال ساتر على عالم من من الخداع والمواربات. تتلخص كل مشاكل  ديدي في احتياجه لحنان الأم، وفي هذا تجاهل للشق الأكبر من شخصيته وتاريخه، وفيه أيضا عذر لرغبة آتهيل في إمداده بكميات من الحنان المشبوه. هي تقول أنها كتبت هذه الوثيقة من أجله ولأولئك الذين ينوون إنجاب الأطفال". كان العمل الأفيد - والذي سيرضى هو عنه - أن تنشر مذكراته.

*****

نُشر في أخبار الأدب - فبراير2015



No comments:

Post a Comment